علي حيدر |
لم تكد تمضي ساعات على دعوة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى أن تكون العيون موجّهة إلى الميدان وليس إلى الكلمات، حتى ارتقى منسوب عمليات المقاومة الإسلامية على طول الحدود، كمّاً ونوعاً. في البعد الإسرائيلي، يشكّل هذا السيناريو تجسيداً للمخاوف التي تهيمن على مؤسسة القرار السياسي والأمني التي أدركت مبكراً أن خطة حزب الله لدعم غزة ومقاومتها تقوم على سياسة عملياتية تراكمية تصاعدية ليس واضحاً الى أين ستصل، وهذا اللايقين يشكّل أهم عوامل الضغط على صنّاع القرار. وهذا ما يُفسّر قرار قيادة العدو حشد ثلث جيشها ونحو نصف منظوماتها الاعتراضية ومعظم سلاحها الجوي بحسب وزير الأمن يوآف غالانت، مقابل الحدود مع لبنان.
مفهوم رئيسي آخر ورد أيضاً في كلمة السيد نصر الله، وهو أن «المسار العام هو أننا يومياً نطّلع، نُقيّم، ننظر، نُقرّر ونعمل، وستبقى هذه الجبهة إن شاء الله ضاغطة». ويعني هذا أن ما يحدّد وتيرة العمليات وسقوفها هو ما يتطلّبه الميدان والتطورات ذات الصلة. وفي هذا السياق، تعمل قيادة المقاومة على تقدير الوضع، ثم تقرر وتعمل بما يعزّز هذه «الجبهة الضاغطة» المتكاملة مع بقية الضغوط التي ترتكز، أولاً، على صمود غزة شعباً ومقاومة، وعلى الاستنزاف الذي يتعرّض له العدو على الحدود وفي جبهته الداخلية، وانطلاقاً من ساحات بعيدة أيضاً.
خلاصة التصعيد الذي ردت فيه المقاومة الاسلامية امس على الاعتداءات الاسرائيلية، أجملته القناة 12، بالسخرية من تسمية ما يجري حتى الان «أيام قتال»، ونقلت عن قادة في قيادة المنطقة الشمالية أن «هناك حرباً في الشمال». وبحسب تقارير اعلامية اسرائيلية أخرى، يبدو أن تجنب البعض تسمية ما يجري بالحرب يعود الى قياس ما يجري بالنسبة الى قدرات حزب الله التي تتجاوز أضعاف ما يتم استخدامه على الحدود.
مع ذلك، أتت ردود المقاومة الإسلامية التصعيدية على الحدود ضد آليات العدو ومواقعه وتجمعاته، بعدما تقاطعت مواقف مسؤولين إسرائيليين مع ما ذهب إليه خبراء أمنيون في وصف الوضع المستجد على الحدود اللبنانية – الفلسطينية بأنه «حرب بوتيرة منخفضة». وعلى هذه الخلفية، أتى رد غالانت على مواقف الأمين العام لحزب الله السبت الماضي، عندما اعتبر، بعد تقدير وضع أجراه مع قيادة المنطقة الشمالية، أن عمليات حزب الله «لم تعد استفزازاً بل عدوانية».
وقبل تصعيد حزب الله أمس، كان رئيس شعبة العمليات السابق في جيش العدو اللواء يسرائيل زيف قد انتقد الأداء الإسرائيلي في التعامل مع جبهة لبنان كما لو أنها «أحداث»، بهدف عدم تظهير مفاعيل الجبهة الشمالية، حتى لا تُفرض على القيادة الإسرائيلية استحقاقات تتعارض مع قرارها بالتفرغ لجبهة غزة، مؤكداً أن ما يجري «هو حرب بوتيرة منخفضة بشكل يومي».
وتكشف ردود المسؤولين الإسرائيليين والخبراء الأمنيين عن مدى الخطورة التي تنظر إليها قيادة العدو لما قد يؤول إليه ضغط عمليات المقاومة، خصوصاً بعدما لمسوا أن وتيرة العمليات تتحرك في مسار تصاعدي وقد ترتفع الى سقوف أعلى. عبر هذا المدخل، تحضر المقاومة في لبنان بقوة لدى مؤسسات القرار في تل أبيب وواشنطن، وخصوصاً أن هذا المسار الميداني التصاعدي يزيد من فرص السيناريو الذي يخشاه هؤلاء، وهو أنه «كلما طالت الحرب ارتفعت احتمالات توسعها». وهذا ما أكّده نصر الله عبر مخاطبة الأميركيين بأنه «إذا أردتم أن تتوقف هذه العمليات في جبهات المساندة، وألّا تذهب المنطقة إلى حرب إقليمية، عليكم أن تُوقفوا العدوان والحرب على غزة. هذه هي المعادلة». وهو بذلك يوضح المعادلة الإقليمية التي تعمل المقاومة على إرسائها في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. ولأن الأخيرة قد تجد نفسها مدفوعة الى محاولة إحباط هذه المعادلة، أكد نصر الله أن «أحداً لن يستطيع أن يضغط على حركات المقاومة لتقف وتسكت وتتخلّى عن مسؤولياتها على الإطلاق، وهذا أيضاً يرتبط بجبهتنا»، مع الإشارة إلى أن السيد نصر الله كان قد أعلن في الخطاب السابق، قبل أسبوع، أن حزب الله أعدّ ما يمكّنه من مواجهة الأساطيل البحرية.
ومن أبلغ المؤشرات التي تؤكد حضور هذه السيناريوات في المشاورات الثنائية بين واشنطن وتل أبيب، ما لفت إليه الرئيس السابق للشعبة السياسية والأمنية في وزارة الأمن ومسؤول الاستخبارات السابق في الموساد، زوهر بلتي، بأن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن قال لغالانت: «أصدقائي، نحن لا نريد حرباً لا في لبنان ولا مع الحوثيين». وهو موقف تحرص الإدارة الأميركية على تكراره نتيجة توالي المتغيّرات التي تضغط على مؤسسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب. وتخشى في المقابل من أن تورطها تل أبيب في ردود غير تناسبية تستدرج ردوداً أشد تؤدي الى التدحرج.
في مواجهة مخاطر هذا المسار الذي حوَّل لبنان الى «جبهة ضغط» تصاعدي، عمد غالانت الى توجيه تهديداته للبنانيين وأن حزب الله «يجرّ لبنان الى حرب قد تقع… سيدفع فيها الثمن المواطنون اللبنانيون». والتوجه إلى اللبنانيين ليس أمراً عرضياً، بل جزء من خطة مدروسة لمحاولة تحريض البيئة الشعبية على المقاومة بعدما ثبت فشل محاولات ردعها. وفي هذا السياق، تعمّد الوزير الصهيوني استحضار المجازر الوحشية والتدمير الشامل بالقول إن «ما نفعله في غزة نعرف كيف نفعله في بيروت». إلا أنه تجاهل عمداً قدرة المقاومة على الدفاع عن لبنان، وعلى استهداف المنشآت الحيوية الإسرائيلية رداً على أي عدوان يستهدف العمق اللبناني. ويمكن الاكتفاء في هذا السياق بما وصف به الخبير في شؤون الأمن القومي الإسرائيلي أوري بار يوسف، اقتراح توجيه ضربة (استباقية) لحزب الله، بأنها «غبية وخطيرة»، موضحاً القيود التي تجعل أي ضربة عقيمة، وشارحاً النتائج التي يمكن أن تترتب عليها (هآرتس 28/10/2023).
ومع أن غالانت حاول رفع مستوى الضغوط على لبنان، بقوله إن «إسرائيل لم تستخدم سوى 10% من قوة سلاح الجو في غزة، وأن مقدمة الطائرات تتجه نحو الشمال». فإنه بذلك كشف أيضاً، بغضّ النظر عن الأرقام التي أوردها، حجم الضغط الذي تمثله جبهة الشمال على قيادة الجيش والمستوى السياسي، وعمق حضورها في تقديرات القيادة الأمنية والسياسية.
هكذا تتجلى صورة كاشفة لاستراتيجية حزب الله وبقية قوى المقاومة في الضغط على الطرفين الأميركي والإسرائيلي، مع التأكيد دائماً أن العامل الرئيسي في تحديد مجرى التطورات الميدانية والسياسية تحدّده مقاومة غزة وصمود شعبها، فيما الساحات والجبهات الأخرى عامل إسناد وتضامن ودعم