لا أحد يريد حمل وزر قرارات غير شعبيّة في هذه المرحلة، خصوصاً تلك المتعلّقة بتصحيح فواتير الخدمات لتتماشى مع التدهور في سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
بالنسبة إلى قطاع الاتصالات، يحتاج تصحيح الفواتير أو تعديل التعرفة إلى قرار صادر عن مجلس الوزراء مجتمعاً، وهو متعذّر لثلاثة أسباب:
– وزير الاتصالات لا يملك الحماسة لتقديم مقترح واضح بهذا الخصوص، على ما يبدو، لئلا يتحمّل تبعات المقترح أمام الرأي العام.
– رئيس الحكومة، والقوى السياسيّة الأخرى المشاركة في الحكومة، لم تُظهر أيّ استعداد لتعديل التعرفة بموجب مقترح مرسوم يفتح الباب أمام المزايدات الشعبويّة بين الأقطاب المشاركين في السلطة، على أعتاب الانتخابات النيابيّة.
– والحكومة نفسها معطّلة، وعصيّة على الاجتماع أصلاً.
أمام هذا الواقع، يتّجه وزير الاتصالات إلى رمي كرة نار زيادة فواتير الخلويّ وأوجيرو في ملعب الموازنة العامّة، وتحميل مسؤوليّة القرار لجميع القوى السياسيّة التي ستشارك في إقرارها داخل مجلسيْ الوزراء والنوّاب. ولتحييد نفسه عمّا سيرافق القرار من آثار وردّات فعل، سيلجأ الوزير إلى وضع سيناريوهين بالنسبة إلى التعرفة:
السيناريو الأوّل: زيادة التعرفة بالنسبة إلى الفواتير على أساس سعر صرف 9000 ليرة مقابل الدولار، أي بما يرفع التعرفة الحاليّة بنحو 6 مرّات دفعة واحدة، ثمّ تقدير موازنة القطاع من ناحية الإيرادات والنفقات على هذا الأساس. وفي هذه الحالة، سيصل القطاع بأسره إلى مرحلة التوازن، أي صفر عجز، لكن من المرتقب أن يعود هذا العجز تدريجيّاً بالتراكم في حال استمرار انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار.
السيناريو الثاني: الإبقاء على التعرفة الحاليّة، على أساس سعر الصرف الرسمي القديم للدولار، وهو ما سيفرض دعم القطاع بنحو 14 مليون دولار سنوياً، نقديّ من ميزانيّة الدولة العامّة. يفرض هذا السيناريو تقديم الدعم بالليرة، على أن يوفّر مصرف لبنان الدولار بحسب سعر صرف منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذا السيناريو لا يتّسم بكثير من الواقعيّة، وتحديداً من ناحية حجم الدعم الضخم المطلوب من الميزانيّة العامّة بالليرة (350 مليار ليرة لبنانيّة خلال سنة واحدة).
وضع السيناريوهين بهذا الشكل في الموازنة العامّة سيعني التوجّه تلقائيّاً إلى زيادة التعرفة في ظلّ عدم وجود موارد لكافية لدعم القطاع. وستأخذ زيادة التعرفة شكل زيادة كلفة الاتصالات بشكل مباشر بالنسبة إلى خطوط الخلوي الثابتة وفواتير الاتصالات الأرضيّة، ووفقاً لسعر الصرف الجديد المعتمد، بالإضافة إلى خفض حجم الخدمات التي يستفيد منها أصحاب الخطوط المسبقة الدفع مقابل الكلفة نفسها لبطاقات التعبئة (أي على سبيل المثال، دقائق أو داتا إنترنت أقلّ). وتشير الأرقام التي قدّمتها وزارة الاتصالات إلى أنّ قدرة شركتيْ الخلوي على الصمود بحسب التعرفة الحاليّة لا تتجاوز حدود شهر أيار حدّاً أقصى.
من ناحية أخرى، تؤكّد الأرقام الموجودة حاليّاً لدى وزارة الاتصالات أنّ حجم السيولة المتوفّرة لدى شركتيْ الخلوي لا يتجاوز حدود 12 مليون دولار، في حين أنّ شركة تاتش وحدها تقع تحت التزامات تتجاوز قيمتها 50 مليون دولار نتيجة نفقات استثماريّة لم يتمّ سدادها بعد. من هذه الالتزامات، هناك 10 ملايين دولار لا يمكن سدادها إلّا بالدولار النقدي، فيما يمكن التفاوض على سداد نسبة من الالتزامات المتبقّية بالشيكات المصرفيّة. وفي الوقت نفسه، تشير المعطيات نفسها إلى أنّ شركة تاتش ستواجه خلال العام الحالي عجزاً تتجاوز قيمته 21 مليار ليرة لبنانيّة، و15.5 مليون دولار نقدي، وهو عجز يَصعب سداده بالنظر إلى شحّ السيولة المتبقّية في حسابات الشركة (حجم السيولة المتوفّر حاليّاً لدى الشركة بالعملات الأجنبيّة لا يتجاوز حدود 7 ملايين دولار).
بانتظار اتخاذ القرار النهائي بخصوص التعرفة، من ضمن الموازنة العامّة، ستكون أمام وزارة الاتصالات خيارات محدودة جدّاً لخفض كلفتها التشغيليّة، في محاولة لتمديد قدرة الشركات على الصمود لأشهر معدودة بعد شهر أيار.
ومن هذه الخيارات التي يشير إليها الخبراء في القطاع:
– تقنين عمل محطات الإرسال التابعة لشركات الخلوي، وفقاً لآليّة الـ National Roaming. بهذه الطريقة، سيتم إيقاف عمل جزء من المحطات التابعة لكلّ من شركتيْ الخلوي خلال فترات انخفاض استخدام الشبكة، وإحالة مشتركي هذه الشبكة إلى محطات الشركة الأخرى العاملة في المنطقة نفسها، وهو ما يمكن أن يساهم في انخفاض حاجة الشركات إلى المازوت وخدمات الصيانة.
– ضبط عمل شركات الإنترنت غير الشرعي وقوننته، بما يسمح بتحصيل رسوم إضافيّة لمصلحة شركة أوجيرو.
– إعادة هيكلة عقود الصيانة بين شركات الاتصالات ومقدّمي الخدمات، بما يسمح بالقيام ببعض خدمات الصيانة من خلال موظّفي الشركات أنفسهم (صيانة داخليّة) بدل الاستعانة بالشركات الخارجيّة، مع إبقاء العقود الضروريّة حصراً.
باختصار، ما يحتاج إليه قطاع الاتصالات هو أبعد من اتخاذ قرار رفع التعرفة فقط، أو التحايل لرفع التعرفة بطريقة توزِّع مسؤوليّة القرار على جميع الأحزاب السياسيّة. ما يحتاج إليه القطاع في الوقت الراهن هو خطّة شاملة لخفض التكاليف، وخصوصاً تلك المقوّمة بالدولار النقدي الذي ترتفع كلفة الحصول عليه مع كلّ ارتفاع في سعر الصرف. فحتّى لو جرى تعديل التعرفة اليوم وزيادتها، من المرتقب أن تعود مستويات العجز قريباً عند تسجيل المزيد من الارتفاع في سعر صرف الدولار، وهو ما سيعيد الأمور إلى نقطة الصفر من جديد.
علي نور الدين- اساس