المطران عوده: سياسيو بلادنا أدمنوا فن الرقص على الجثث

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
 
بعد الإنجيل المقدس، ألقى عظة قال فيها: “سمعنا في إنجيل اليوم: لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. فإنه لم يرسل الله ابنه الوحيد إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم. يعيد السيد المسيح هنا التأكيد أن ما يوصل إلى الحياة الأبدية ليس الناموس، بل الإيمان. والإيمان وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بالمحبة التي تشبه محبة الله غير المحدودة، والتي لا تفرق. فقد أحب الله كل العالم، ولم يحدد فئة واحدة معينة خصها بمحبته الإلهية”.
 
أضاف: “اليوم، يا أحبة، نصلي من أجل راحة أنفس أحبائنا الراقدين، ضحايا الفساد المستشري في عروق مسؤولينا. نصلي من أجل راحة أنفس ضحايا أبرياء، لا ذنب لهم إلا أنهم يعيشون في دولة ينخرها الفساد والجشع للسلطة، وتعم فيها الفوضى واللامسؤولية إلى درجة التسبب بقتل الأبرياء، وتدمير أحياء من العاصمة، ومنازل عديدة لمواطنين يرزحون تحت عبء التدهور الاقتصادي والمالي. مر أربعون يوما على التفجير الرهيب الذي خض قلب لبنان، وهز الضمير العالمي، أما الضمير المحلي فلم يهتز لأنه مات منذ زمن بعيد. حملت مئات العائلات صليب الألم والحزن، وصلاتنا اليوم هي من أجل أن تشهد تلك العائلات قيامة حقيقية لهذا البلد الذي، كلما نهض من سقطة، تعود سقطة أخرى لتغرقه في مستنقع أعمق وأنتن. نصلي من أجل ضحايا مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي، من ممرضات ومرضى وذوي مرضى. نصلي من أجل أطفال سلبت منهم حياتهم قبل أن تنطلق. نطلب الراحة الأبدية لشابات وشبان تخرجوا من الحياة قبل أن يستطيعوا حمل شهاداتهم الثانوية والجامعية، وقبل أن يشاهدوا نظرة الفخر في أعين والديهم”.
 
وتابع: “ندعو ربنا المحب البشر أن يتغمد بواسع رحمته أمهات وآباء رحلوا قبل أن يتعرفوا على مواليدهم الجدد، أو أن يفوا بوعودهم التي قطعوها لأطفالهم. نصلي من أجل شيوخ أجلاء لم يستطيعوا الوصول إلى الراحة المنشودة في شيخوخة مكرمة. نصلي من أجل ضحايا تفجير أثيم لم يفرق بين عرق ولون وسن وطائفة، فكان نموذجا بشعا عما كنا نود الوصول إليه بفرح، من خلال بناء دولة لا تفرق بين أبنائها، بل تكون جامعة لجميع الأطياف تحت راية واحدة شريفة. افتدى هؤلاء الضحايا، إلى أي فئة انتموا، بدمائهم الزكية، وطنا ممزقا، مشرذما، ينخره سوس الفساد. وبدلا من أن تحترم دماؤهم، عدنا نسمع بالمحاصصة التي تزيد الشرخ عوض اللحمة. سياسيو بلادنا أدمنوا فن الرقص على الجثث، لأنهم اعتادوا على رائحة الدماء التي لطخوا بها أيديهم. لا يأبهون إلا لجيوبهم وكراسيهم وحصص أحزابهم وتياراتهم، أما الإنسان فلا قيمة له عندهم ولا وجود له في حساباتهم”.
 
وقال: “صحيح أن عاصمتنا بيروت نكبت بانفجار المرفأ، والمشهد تكرر وأهل المدينة يعيشون ذعرا دائما، إلا أن نكبتها الأولى هي انعدام المسؤولية وغياب الأخلاق والضمير عند طبقة سياسية لا تتحمل المسؤولية ولا تعرف المحاسبة، ومجموعة من الموظفين نخرها سوس الفساد والإهمال وليس من يحاسب أو يعاقب. ما جرى عصر الرابع من آب جريمة ضد الإنسانية، ضد إخوة لنا فقدوا أرواحهم أو أحباءهم أو أرزاقهم والسقف الذي يأويهم. والسؤال المشروع لماذا؟ وكيف يسمح إنسان، مهما كبرت مسؤوليته أو صغرت، بجريمة كهذه؟ كيف يتغاضى عن وجود كمية هائلة من المواد القابلة للانفجار، ولمدة سنوات، في قلب المرفأ الموجود في قلب العاصمة؟ كيف يتجاهل أي إنسان، مسؤولا كبيرا كان أو صغيرا، هذا الأمر وإن لم يكن من صلاحياته؟ وهل من اعتبار للصلاحيات أو التراتبية في وضع كهذا؟ ألم يؤنبه ضميره ويقض مضجعه؟ وهل حياة الإنسان رخيصة إلى هذا الحد؟ أمام تهديد ينذر بكارثة هل يتوقف المسؤول أمام الصلاحيات؟ الإهمال القاتل والبيروقراطية المجرمة والتخاذل الجبان بالإضافة إلى المصلحة، كلها تكاتفت ضد المواطن الضعيف والعاصمة الثكلى. وحتى اليوم، وبعد انقضاء أربعين يوما على الكارثة، لم يطلعنا أحد على نتيجة التحقيق ولم نسمع إلا ببضعة توقيفات وكأن ما حدث لا يستأهل استنفار الدولة بأكملها. والمؤلم أكثر أن الحرائق في المرفأ تتوالى والسكان هلعون، والأطفال خائفون، وليس من يطمئن أو يثلج القلب”.
 
أضاف: “مسكين ابن بلادي. مسكين من تشبث بأرضه وقرر أن يجاهد للعيش فيها. مسكينات الممرضات الأربع اللواتي فقدن أرواحهن في مستشفى القديس جاورجيوس فيما كن يقمن بواجبهن الإنساني. مساكين هم المرضى الذين قضى عليهم الانفجار المجنون في مستشفى القديس جاورجيوس وغيره من مستشفيات العاصمة، والسكان الأبرياء الذين أصيبوا أو أصيبت منازلهم. مساكين نحن جميعا لأننا، رغم الكارثة التي حلت بنا، ما زلنا نشهد تراشق الإتهامات وتقاسم الحصص وتبادل الشروط والتمسك بحقائب، وتناتش الفرص في بلد يئن ألما وبؤسا وشقاء”.
 
وتابع: “يعيد العالم أجمع غدا عيد رفع الصليب الكريم المحيي، واليوم أكثر من أمس، أصبحنا نفهم معنى الصليب. أصبحنا ندرك كم تألم الرب قبل أن يصلب، وكم هزىء به قبل أن يعلقوا جسده الطاهر على الخشبة. شعبنا يعيش جلجلة يقوده إليها قادة وزعماء خجل اليهود، صالبو المسيح، أن يماثلوهم في الشر. شعبنا يهزأ به يوميا من خلال مسرحيات سياسية وإقتصادية ومعيشية تجعله يعيش قلقا دائما، لكي يبقى خاضعا وراضخا لسلطة لا تعرف المحبة والعدل والحق. إلا أن صليب الرب كان تمهيدا للقيامة البهية، ذلك ليعلمنا أن الألم لا يدوم، والموت زائل، وأن فرح القيامة سيأتي لا محالة، الأمر الذي ننتظر حصوله في بلادنا، علنا نفرح بأبنائنا وهم في وسطنا، لا في بلدان الإغتراب والإنتشار بحثا عن العلم أو العمل والأمان والاستقرار”.
 
وقال: “منذ أيام، عيدنا ميلاد والدة الإله العذراء مريم، التي رتلنا لها: ميلادك يا والدة الإله، بشر بالفرح كل المسكونة، لأنه منك أشرق شمس العدل المسيح إلهنا، فحل اللعنة ووهب البركة، وأبطل الموت، ومنحنا الحياة الأبدية. تشدد كنيستنا المقدسة، في كل أعيادها، على أن الفرح والخلاص والبركة هي للجميع، لا لفئة معينة. هذا ما عبر عنه الرسول بولس: صرت للكل كل شيء، لأخلص على كل حال قوما (1كو 9: 22). هذا ما لم يفهمه أي زعيم أرضي، ولم يقم به أي مسؤول سياسي، وخصوصا المسيحيين منهم. كل منهم لحزبه، لتطلعاته، لمصالحه، لارتباطاته، يدين الآخرين المختلفين. لم يرسل الله ابنه الوحيد إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم، الديان العادل لم يدن العالم بل خلصه، أما أنتم فجل ما تقومون به هو إدانة بعضكم البعض، في حين ينصب كل منكم نفسه مخلصا للبلد، معتدا بكتلته وشعبيته وحصصه وسلاحه. اللبنانيون أصبحوا يشمئزون من خطاباتكم الممجوجة، ومن طرقكم المعوجة. ألم يحن الوقت لتتحدوا، على الأقل من أجل أن تستريح الأرواح التي أزهقت، وتبرد الدماء التي أهرقت، ولكي يفرح ذوو الشهداء، الذين استشهدوا منذ عقود وحتى اليوم، على مذبح هذا الوطن، بأن تقدماتهم الغالية أزهرت لبنانا حلمت به أجيال بعد أجيال، لبنانا ناصع البياض، لن تخالط بياضه حمرة دم بعد اليوم؟”
 
أضاف: “والدة الإله مريم، التي عيدنا لميلادها في الثامن من أيلول، جاز سيف في قلبها عندما رأت ابنها، وحيدها، معلقا على الصليب، الذي نعيد لرفعه غدا. كم بيتا جاز سيف الموت في قلبه؟ كم بيتا تريدون بعد أن تجيزوا هذا السيف المر في قلبه؟ ألم تكتفوا من فساد يدمي القلوب والجيوب ويهجر البنين والبنات؟ هل تنتظرون أن يفرغ البلد فتصبحون حكاما على أنفسكم أو على الحجر؟ هل يعجبكم الدمار؟ هل ستتركونه مقصدا سياحيا يدر عليكم بالمال أم ستعيدون الإعمار، إعمار الكرامات قبل المنازل؟ دمرتم النفوس والأجساد فماذا تريدون أن تدمروا بعد؟ دمرتم الاقتصاد والسياحة والتجارة والثقافة والتربية والعائلة… ماذا بقي؟ كل هذا الدمار سيعود عليكم خرابا، لكن الشعب سيقوم من تحت ركامكم، وستشرق شمس العدل والعدالة، وينال كل واحد ما يستحقه ثوابا أو عقابا. يا أحبة، يقول الرب على لسان النبي إشعياء: عزوا عزوا شعبي، يقول إلهكم (40: 1). هذه رسالة مسؤولي الشعوب، أن يعزوا، لا أن يدمروا ويهدموا ويحزنوا. لم يبق مكان للرب في قلوب حكامنا، لأنهم ملأوها بغضا وحقدا وجشعا وثأرا وكيدية… آن الأوان لتجتمعوا وتتحاوروا بصدق وشفافية من أجل الخير العام، وخصوصا المسيحيين منكم، علكم تتشبهون بمن حملتم اسمه، بالمسيح المحب، الوديع والمتواضع القلب، الذي تألم ليفتدي شعبه. يقول القديس إسحق السرياني: أحبب الصمت فوق كل شيء… أحبوا الصمت، جاهدوا في العمل، عندئذ يصبح قولكم والعمل في سبيل الكمال، وتذكروا قول الرب: أما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السموات (مت 5: 19)”.
 
وختم عوده: “في الأخير، نسأل إلهنا المصلوب والقائم من بين الأموات، أن يريح نفوس المنتقلين عنا في تفجير بيروت، بشفاعات والدة الإله العذراء مريم، وجميع القديسين، وأن يعزي قلوب ذويهم أولا، وجميع اللبنانيين عموما. ألا كانت دماؤهم المسفوكة ذبيحة مرضية لدى الرب، من أجل خلاص بلدنا الحبيب وقيامته. كما نسأله أن يشفي كل مصاب، وأن يساعد كل محتاج، وأن ينير قلوب الجميع، ويوقظ ضمائرهم ليتكاتفوا من أجل إنقاذ لبنان”.