كتب رضوان مرتضى في صحيفة “الأخبار”: وقف القاضي محمد مازح وحيداً. لا أثر لأحدٍ من الثوّار الجدد على بوابة قصر العدل. بضعة أشخاص حضروا للتضامن مع القاضي الذي وقف في وجه أميركا، لكن ذلك لم يكن كافياً. لم يتفجّر نبض الثورة أمام قصر العدل حيث تُسوّى ملفات الفاسدين. كان الأجدر أن يُقفل هذا القصر ليُمنع أي كان من الاقتصاص من مازح. هنا يدخل كل من حاكم مصرف لبنان وفؤاد السنيورة ومتعهّدو الدولة معززين مكرّمين ثم يخرجون بصكّ براءة يمهره قاضٍ عيّنته السياسة. ينتظرهم السائقون لديهم في مرأب السيارات ليعودوا بهم من حيث أتوا. لكن مازح حضر وحيداً. كتب استقالته ثم غادر وحيداً. قاد سيارته لساعة ونصف ساعة حتى وصل إلى بيته في الجنوب. ولم يتمكن حتى من غسل عبء هذا اليوم لأن المياه كانت مقطوعة في منزله.
لم يحظَ مازح بالاحتضان الذي حازه مفوض الحكومة بيتر جرمانوس. هذا القاضي الذي اشتُبه في تورّطه في ملفات الفساد حمته السياسة ومنعت عنه المحاكمة لأشهر طويلة. حتى إنّه تمرّد على السلطة القضائية، رافضاً المثول أمام هيئة التفتيش، لكن أحداً لم يجرؤ على المس به. بقي في مركزه حتى استقال بملء إرادته. أما قصة مازح، فذلك أمرٌ آخر.
عند الساعة الثانية من بعد ظهر أمس، وفي ديوان مجلس القضاء الأعلى في قصر العدل في بيروت، جلس مازح منتظراً للدخول لحضور الاجتماع الدوري للمجلس. خرج أحد القضاة لاستقبال القاضي مازح الذي طُلِب منه الحضور لمخالفته موجب التحفّظ في تصريحاته لوسائل الإعلام. وبعد السلام، سأله عن إجراء الوزيرة ماري كلود نجم بحقّه. فوجئ مازح سائلاً: «حوّلتني على التفتيش؟ مش محمد مازح اللي بروح على التفتيش. لا أقبل أن أحال على التفتيش. أعوذ بالله أن أحال على التفتيش». ثمّ طلب ورقة بيضاء ليكتب استقالته. حاول القاضي ثنيه، لكن من دون جدوى. طلب منه الدخول لمناقشة ما حصل أمام مجلس القضاء الأعلى، لكنه رفض. أخذ ورقة وكتب عليها: «حضرات السادة رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، أتقدّم لحضرتكم بإنهاء خدماتي من القضاء». قدّم كتاب استقالته ثم انصرف. اعتبر مازح أنّ قراره القضائي الذي منع بموجبه وسائل الاعلام من استصراح السفيرة الأميركية دوروثي شيا واعتبار تصريحاتها تهديداً للسلم الأهلي، كان قانونياً وجرى تسييسه، «وهذا ما لا أرضاه حفاظاً على كرامة القضاء». وفي أول تعليق له بعد استقالته، كتب على صفحته على فايسبوك: «ألستُ على حق؟ بلى بإذن الله. إذاً لا أُبالي إذا ما وقعت على العقوبة أم وقعت العقوبة عليّ. الحمد لله رب العالمين وبالإذن من سيدي الإمام الحسين وسيدي علي الأكبر».
أحيل القاضي على التفتيش، رغم أن مجلس القضاء سبق أن طمأنه إلى أنّه لن يُساءل عن قراره المتعلق بالسفيرة الأميركية. وبعدما كان قد اتّخذ قراره بالاستقالة، تراجع على اعتبار أن استدعاءه مرتبط بالتصريح لوسائل الإعلام. ولكن، بعدما أحيل على التفتيش بقرار من وزيرة العدل، استشعر بأنّ هناك مكيدة تُدبّر له، وقرر الاستقالة. يقول مازح لـ«الأخبار»: «استقالتي نهائية ولن أتراجع عنها». أراد هذا القاضي أن يُسجّل موقفاً للتاريخ. رفض الذُّل، وواجه وحيداً.
اليوم، يُنتظر أن يُبدي مجلس القضاء الأعلى رأيه في الاستقالة، على أن تبتّها وزيرة العدل. الأخيرة، في اتصال مع «الأخبار»، قالت: كل قاضٍ حُرٌّ بقراره. بسبب هذا القرار، أُثيرت بلبلة كبيرة. وانقسم الرأي العام بين مؤيد للقاضي ومندد بقراره. لذلك، وحرصاً على القاضي نفسه، طلبت من التفتيش القضائي، وهو هيئة إشراف على القضاء وليس كإجراء عقابي، أن يُتابع هذه القضية. وبالتأكيد أنا أحترم القاضي وأحترم قراره».
لا تُشبه أيام القاضي محمد مازح سابقاتها. يعيش الرجل أياماً استثنائية. في الليلة الماضية، ناجى «أبو رضوان» ربّه وبكى. يقول إنه ذرف الدموع «لأنّ الله عوّضني عن كل الغُبن الذي عشته في السنين الماضية. ختم مسيرته القضائية بشرفٍ عظيم، إذ قال «لا» للدولة الأعظم في العالم.