يعكس الوضع اللبناني المأزوم المتعدّد النواحي والجوانب، مع ما ينبعث من روائح سياسيّة “كريهة” نتيجة الخلافات والمناكفات الحاصلة بين أهل السلطة والتي برز إنعكاسها بالدرجة الأولى على المواطن نتيجة الأضرار التي لحقت به. ثمة أسئلة كثيرة تُطرَح اليوم لها علاقة بالوضع الأمني في البلاد وحجم الإستقرار الذي تعيشه، على الرغم من الأزمات التي يغرق فيها لبنان حتّى أذنيه.
استطاعت القوى الأمنيّة في لبنان وعلى أنواعها كافة، الحفاظ على تثبيت إستقراره الداخلي والنأي به عن الأزمات والمشاكل التي تُحيط به، مما ساهم في العديد من الأحيان، بإبداء إشاداتٍ وإطراءاتٍ من دولٍ إقليمية كبيرة، كان لها هي أيضًا النصيب الوافر من الإعتداءات والإستهدافات، وذلك إنعكاسًا لكل هذه الصراعات القائمة في المنطقة.
والمُستغرَب، أنّ هذه الأمور الإيجابية كلّها التي وضعت لبنان في مصافِ الدول التي يُضرَب لها الحساب في عالم الأمن وتثبيت الإستقرار الداخلي، بدأت بالتدرّج في وقتٍ كان يُعاني فيه البلد، من شغور رئاسي ظلّ لفترة تزيد عن عامَيْن وخمسة أشهر، مع مدّة طويلة من دون حكومة تُنظّم دورته الأمنيّة والسياسيّة والإقتصاديّة ـ المالية، بالإضافة إلى انخراط جزءٍ أساسيٍّ من نسيجهِ الاجتماعي والحزبي في حروبٍ خارج الحدودِ، يُقاتل في سبيل قضيّة تُعتَبَر في المنظور العام، أنها تخدم مصالحه وأجندته الإقليمية.
اليوم، ثمّة من يذهب في التحليلات السياسيّة والأمنيّة وحتّى العسكرية، إلى أن لبنان محكومٌ في هذه الفترة بعملية أمنيّة مُعقَّدة نسبيًّا مع تلك التي تُستخدَم في العديد من الدول، تقوم على قواعدٍ ثلاث هي: الأمن بالتراضي، الأمن التوافقي والأمن بالصدفة، ولكل قاعدة تفسيرها الخاص يُمكن أن تُرضيَ بعض الأطرافِ دون الأخرى، أو أن تُمارسَ على حساب فئةٍ دون غيرها، أو حتّى تطبيقها وفقًا للتصويت على قاعدة “الأكثرية”.
وحده أمن الصدفة في لبنان، لا يُمكن التكهّن به مُسبقًا، فهو يفرض نفسه تبعًا للظروف التي تمرّ بها المنطقة ولا يحتاج بالتالي إلى جهود الدولة وأجهزتها، كونه يقوم على عدم وجود رغبة لدى الدول المؤثّرة والمعنيّة بشكل أساسيّ بعملية إستقراره، بتحويله إلى كرة نار أو إلى مسرح تجارب واختبار للقوى المتصارعة.
على سبيل المثال، تعتبر مصادر سياسيّة بارزة، أن تلهّي اللبنانيين بلقمة عيشهم وثورة 17 تشرين، بالإضافة إلى إنتشار فيروس “كورونا“، هي مجموعة من الركائز التي تصبّ في خانة أمن الصدفة، فربما أنه من دون وجود كل هذه المُسبّبات لفرض أمن الصدفة، لكنّا اليوم في حالة استنفار عام، إمّا مذهبي أو طائفي، وربما كان الشارع اليوم، الحل الذي يحتكم اليه الجميع لتصفية الحسابات. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المتربصين بأمن البلد، لكانوا وجدوا فرصتهم للإنقضاض على الإستقرار.
وترى المصادر نفسها، أنه ما من شيءٍ اسمه أمن بالتراضي في كل بلاد العالم، بل هناك سطلة وقانون يجب أن يُفرَض وأن يُحمى من الجميع وليس من فئة أو مجموعة وحدها، أما إذا تركنا الخيار للقاتل مهما كان حزبه أو إنتمائه المذهبي بأن يُقرر هو الحضور إلى المحكمة من عدمه، يُصبح الأمر أقرب الى الجنون. لكن للأسف، نحن كلبنانيين كُنّا لمسنا هذا النوع من الأمن عندما تُرِكَ الشمال يُستباح ويغرق في الفوضى، ولكيّ يعوضوا عن تقصيرهم لكي لا نقول تورطّهم، اخترعوا في المقابل الخطّة الأمنيّة في البقاع.
ماذا عن الأمن التوافقي؟ المؤكد أن الأمن التوافقي، هو المعمول به اليوم والذي يندرج ضمن توافق سياسي بين أركان الحكم وقيادة الأحزاب، وبطبيعة الحال، فإن حزب الله يُعتبر بمثابة جزءٍ أساسيٍّ من هذا التوافق.
الحقيقة أن هذا النوع من الأمن كان أظهر إيجابيته في معارك “فجر الجرود” ضد الجماعات الإرهابية والذي انعكس إيجابًا على الداخل ولاسيما بعد موجاتٍ كبيرة من العمليّات الإنتحارية التي استهدفت العديد من المناطق من دون تفرقة. يومها منح جميع السياسيين الضوء الأخضر للمؤسسة العسكرية، فكانت النتيجة أن تحوَّلَ لبنان إلى مرجعيّةٍ في دولية مكافحة الإرهاب، وكان للجيش اللبناني الدور الأبرز في رسم وتثبيت هذا الطريق.
المصدر:”ليبانون ديبايت”