استهداف المؤسسة العسكرية خط أحمر

كتب المحامي د. إبراهيم أسامة العرب في “اللواء”:

إنّ الإجحاف بحقوق العسكريين، يؤدي إلى إرهاقهم جسدياً ومعنوياً، الأمر الذي ينعكس سلباً على مستوى أداء مهماتهم؛ وهذا ما يضع البلد في مأزق كبير. فقد أدّى تخفيض موازنة المؤسسة العسكرية باعتماد سياسة تقشفية كبيرة إلى درجة أن وجبة اللحوم الحمراء حذفت من القائمة الغذائية للجنود منذ نحو عام. كما أن راتب الجندي صار يوازي نحو 70 دولاراً بفعل انهيار الليرة أمام الدولار بعد أن كان يوازي نحو ألف دولار أميركي. ولذلك نشرت صحيفة ال- «تليغراف» تقريراً بعنوان «الجيش اللبناني مهدّد بالانهيار»، جاء فيه أن السياسيين اللبنانيين قد تركوا الجنود يعانون ويجوعون، وأنّ الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي يعاني منها لبنان ستؤدي حتماً إلى انهيار جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش اللبناني الذي يشكّل العمود الفقري للبلد. الأمر الذي يستفاد منه أن الجيش سوف لن يكون بمقدوره متابعة مهامه المتمثلة بالحفاظ على استقرار المناطق الحدوديّة الجنوبية من العابثين بالاستقرار، والتعاون والتنسيق مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان تنفيذاً للقرار 1701، ومواجهة التنظيمات الإرهابية، والتصدي لخروقات العدو الإسرائيلي، ومراقبة نشاطاته خصوصاً لناحية منعه من التعدّي على الثروات النفطية اللبنانية في المياه الإقليمية.

الجيش نفسه دق ناقوس الخطر، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لقوة ربما تكون فريدة من نوعها في الشرق الأوسط، حيث أطلق قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون، صرخة مدوّية في وجه سياسيي البلد، قائلاً: إلى أين نحن ذاهبون؟ ماذا تنوون أن تفعلوا؟ هل تريدون جيشا أم لا؟، وتابع، في مؤتمر صحفي: «إنهم لا يكترثون للجيش ولا لمعاناة العسكر الذين يعانون ويجوعون، فموازنة الجيش تُخفَّض في كل سنة، بحيث أصبحت الأموال لا تكفي»، ومن ثم حذّر من خطورة الوضع وإمكان انفجاره. إلا أنّ رسالة العماد جوزيف عون لم تغيّر شيئاً من تعاطي أهل السلطة مع الجيش، وإن كانت قد حذّرت الدول الصديقة من مخططات النيل من المؤسسة اللبنانية الوحيدة التي يوجد حولها إجماع وطني، ومن ممارسات الطبقة السياسية – الأوليغارشية المتعسّفة بحقها. فمنذ توجيه العماد عون هذه الرسالة القوية، وجّه رئيس هيئة أركان الجيوش الفرنسية دعوة إلى العماد جوزيف عون لزيارة باريس، لبّاها الأخير في 25 أيار الماضي، والتقى حينها الرئيس ماكرون، ومن ثم نظمت باريس مؤتمراً دوليا لدعم الجيش اللبناني، لمنع انهياره، إلا أنها لم تتوصّل الى حدّ الإعلان عن مساعدات ملموسة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد. وعلى ما يبدو فإنّ المشكلة مستعصية بشكل كبير لأنّ المساعدات الأجنبية التي قدّمت للجيش اقتصرت على المواد الأولية والطبية والغذائية. حيث أفادت المصادر في وزارة الجيوش الفرنسية أن المساعدات ستشمل قطع غيار للآليات والذخيرة، والمحروقات، والطبابة من أدوية ومعدات استشفائية للمستشفيات العسكرية وغذاء بسبب الطابع الحرج للوضع، لكنها لن تشمل شراء عتاد أو دفع أجور إذ أن الأسرة الدولية تشترط لتوفير أي دعم اقتصادي ومالي للبنان إجراء إصلاحات بنيوية لم تتبلور حتى الآن مع غياب تشكيل حكومة. في حين أنّ الجيش اللبناني يحتاج إلى 100 مليون دولار نقداً سنوياً، 40 مليون دولار منها للطبابة، أما البقيّة فموزعة بين رواتب ومدارس ومواد غذائية. ولذلك حذر وحذر قائد الجيش في المؤتمر من خطورة انهيار المؤسسات ومن بينها المؤسسة العسكرية، لأن البلد بأكمله سيكون مكشوفاً أمنياً.

والحقيقة أن إضعاف الجيش يرمي إلى التأثير على مستقبل السياسة الدفاعية للبلد، لأنّه يمثل المؤسسة الأمنية الوحيدة القادرة على تشكيل الأرضية الخصبة لإعادة بناء الدولة المدنية المنشودة. فهذه هي المرة الأولى في التاريخ، التي يجد الجيش اللبناني نفسه مهدداً بوجوده من قبل الطبقة السياسية اللبنانية المهترئة، خصوصاً بعد أن حرمته الأخيرة من جميع مخصصاته، لا بل حتى من وجباته اليومية. ولذلك، فإننا نستنكر الحملة الظالمة التي تساق لاستهداف الجيش بكل مكوناته بهدف السعي لإصابة عناصره بالإحباط، كما يجري على الصعيد القضائي، والتي تأتي ضمن سلسلة من الحملات المشبوهة الهادفة لتقويض مؤسسات الدولة. مؤكدين بأنه لا يوجد أحد ساذج لدرجة تصديق أنّ الساسة في هذا البلد غير قادرين على تأمين ثمن اللحوم للجنود، أو على التبرّع للجيش بجزء يسير جداً من المال العام الذي نهبوه سحابة ثلاثين سنة من الحكم. كما أننا نتساءل إلى متى ستكفي المساعدات الدولية لشهر أو شهرين أو ربما أربعة أشهر؟، وما العمل بعدها؟ من المعيب على المنظومة السياسية السماح بسقوط آخر عمود من بناء هذه الدولة.

ختاماً نؤكد بأن استهداف المؤسسة العسكرية هو خط أحمر، ويصب في مصلحة أعداء الوطن. ونوجّه تحية تقدير وإجلال إلى قائد الجيش العماد جوزيف عون على جرأته في مواجهة السياسيين ومواقفه المشرّفة بحماية المؤسسة العسكرية، كما نحيي وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي التي ترأست المؤتمر الدولي الداعم للجيش، وتمكّنت من تحقيق توافق حول ضرورة تقديم مساعدات ضرورية للجيش اللبناني للحفاظ على استقرار البلد، وحرصت على أن تمنح المساعدات مباشرةً إلى الجيش، لا أن تمر عبر حكومة تصريف الأعمال، لفقدان ثقة المجتمع الدولي بنزاهة حكام هذا البلد. آملين أن يتمكّن قائد الجيش بمساعدة المجتمع الدولي من إنقاذ هذه المؤسسة العريقة في أقرب وقت ممكن، وإبعادها عن المخاطر التي تتهدّدها، مؤكدين أن هذه هي البداية التي تشكّل خطوة أولى يتم التأسيس عليها لنقل مستوى الاهتمام بالجيش اللبناني إلى مستوى أرفع.