بغياب سياسة عامة تقارب ملف الدواء في لبنان في ضوء الانهيار المالي والاقتصادي، يستمر التخبط في ادارة هذا الملف، خصوصاً بعد ان توقف مصرف لبنان عن امداد التجار والمستوردين “بالدولارات الطازجة” المطلوبة لاستيراد الادوية والمستلزمات الطبية على سعر الصرف الرسمي.
وهذا الاجراء كان قد اطلقه المصرف المركزي في تشرين الاول من العام 2019 مع بداية انهيار سعر الصرف حيث يمنح الدولارات مقابل السعر الرسمي لمستوردي القمح والادوية والمحروقات بالإضافة الى سلة غذائية عبر اعتمادات مصرفية تفتح من اجل ذلك.
يُفهم هذا الاجراء في فترة معينة انتقالية لحماية القدرة الشرائية للمواطنين وللحفاظ على استقرار اسعار السلع الاساسية كالدواء والخبز ووقود التدفئة، لكنه تحول الى سياسة عامة يمارسها المصرف المركزي بعد ان امتنعت الحكومة عن تقديم سياسات وبرامج لمعالجة الازمة الاقتصادية والمالية والمعيشية، اللهم الا قرار الامتناع عن دفع سندات اليوروبوند في اذار 2020.
ويشكل الالتجاء المستمر الى المصرف المركزي وجعله في موقع صانع السياسات العامة هرطقة فمعظم السياسات العامة تقتضي اراء اهل الاختصاص والمعرفة من الوزارات المختصة ومن القطاعات المعنية، وكذلك تتطلب التشريعات اللازمة.
بينما ابقى هذا الاجراء على اسعار الادوية منخفضة اصبحت كلفة الاستمرار به باهظة على مصرف لبنان الذي سيضطر الى استخدام الاحتياط الالزامي من العملة الصعبة وهي الاموال المودعة لديه من قبل المصارف كنسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع حسب ما تنص عليه المادة 76 من قانون النقد والتسليف. فقد وصلت كلفة استيراد الادوية والمستلزمات الطبية وحليب الاطفال الى 1،173 مليار دولار خلال العام 2020 لتعود وترتفع الفاتورة الدوائية بشكل كبير خلال العام الحالي حيث قدرت الكلفة في الخمسة اشهر الاولى من العام بحوالي 1،310 مليار دولار من خلال الطلبات التي تقدمت بها شركات استيراد الادوية والمستلزمات الطبية. اذن *نحن امام معضلة حقيقية بين صعوبة الغاء الدعم عن الدواء بشكل فجائي وغير منظم عبر توقف المصرف المركزي عن تحويل الدولارات وهو بذلك يطبق منطق محاسباتي على الصحة العامة وما سيخلف عن ذلك من تردي صحة الناس، وبين ابقائه وتمويله عبر المصرف المركزي من موجودات هي في تناقص مستمر وصولاً الى استخدام الاحتياط الالزامي. كل ذلك يحدث بظل غياب الرقابة على وصف وبيع الدواء والذي ادى الى تخزينه بالجملة والمفرق، والى تهريب بعضه الى الخارج.
لماذا وصلنا الى هذه اللحظة الحرجة؟
ان التخبط الحاصل هو احدى ظواهر الازمة المالية والاقتصادية ولكنه وليد السياسات السابقة التي جعلت من كلفة الفاتورة الدوائية في لبنان من الاعلى في العالم حيث قُدر الانفاق على الدواء عام 2018 قبل الازمة الاقتصادية بـ 3.4% من الناتج المحلي الاجمالي، وهذه من اعلى النسب في العالم فمثلاً اليونان انفقت على الدواء 2.2% من الناتج المحلي الاجمالي عام 2018 وهي من اعلى مستويات الانفاق في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كذلك يشكل الانفاق على الادوية الحصة الاكبر من مجمل الانفاق على الصحة والتي تقدر بـ 44% من المجموع، وهذه النسبة هي من الاعلى في العالم . يعود ذلك الى اعتماد لبنان على استيراد الدواء من الخارج بنسبة 81% من احتياجاته الدوائية جلها من الاسماء التجارية متجاهلاً تطوير الانتاج المحلي للدواء حيث تعمل مصانع الدواء بمعدل نصف طاقتها فقط مغطية 19% من احتياجات السوق – 12% من حاجات السوق هي فعلياً ادوية تتم تعبئتها لحساب الشركات العالمية و7% فقط هي بدائل.
ما العمل؟
اولاً: تفادياً لرفع دعم غير منظم، على الحكومة وضع خطة مرحلية لترشيد الدعم حتى نهاية 2022 حيث يشمل الدعم فقط ادوية الامراض المستعصية التي تحدد مسبقاً من قبل لجنة علمية موثوقة.
ثانياً: الشروع في وضع سياسة دوائية حديثة تُبنى على مدماكين:
1) التطوير والاستثمار في الصناعات الدوائية المحلية ووضع التشريعات والاجراءات اللازمة لمراقبة جودة الادوية المنتجة محلياً.
2) الاستيراد المباشر من قبل القطاع العام عبر منظمة الصحة العالمية واليونيسف وغيرها من المنصات كما هو حاصل حالياً في برنامج الادوية المزمنة الذي تشرف عليه وزارة الصحة العامة وتنفذه بالتعاون مع جمعية الشبان المسيحيين من خلال شبكة مراكز الرعاية الصحة الاولية العاملة على كافة الاراضي اللبنانية ويستفيد منه حوالي 100،000 مريض بشكل دوري.
ثالثاً: وضع نظام الكتروني لوصفة الدواء (e-prescription system) يربط الطبيب والصيدلي ويراقب استخدام الادوية من قبل المريض وحاجته لذلك. وهذا النظام ليس مستحيلاً مع نجاح تجربة منصة التفتيش المركزي واستخدامها في تنظيم التلقيح ضد الكورونا.
مرصد الازمة في الجامعة الاميركية هو مبادرة بحثية باشراف د. ناصر ياسين تهدف الى دراسة تداعيات الازمات المتعددة في لبنان وطرق مقاربتها
المصدر : mtv