هذا يبقى مجرد افتراض، فحتى كتابة هذه السطور لم يُعلن عن إصابة أي زعيم عربي بالوباء الجديد. عالمياً، خضع رئيس وزراء كندا والمستشارة الألمانية لحجر احترازي بسبب الاشتباه بالإصابة، وخضع ترامب للفحص على خلفية إصابات في الدائرة القريبة منه. المؤكد أن رئيس وزراء إنكلترا وصلت به الإصابة إلى غرفة العناية المركزة، فضلاً عن إصابة وزير في حكومته وولي العهد البريطاني.
توزعت الدول العربية بين تلك التي أعلنت عن حجم كبير نسبياً من الإصابات وتلك التي أعلنت عن حالات قليلة جداً، والعدد المعلن في كافة الدول لا يضعها في بؤرة تفشي الوباء، مع وجوب التنويه بتفاوتها ضمن معيار الشفافية. لكن يصعب علينا في معظم الأحوال الاقتناع بأن الأرقام المعلنة لا تخضع لتحكم من المستوى السياسي، فالمؤسسات الصحية في هذه البلدان “أسوة بكافة المؤسسات” غير بعيدة عن تحكم النظام الهرمي، رئاسياً كان أو ملَكياً.
في هذا النوع من الأنظمة، إذا أصيب الزعيم بالفيروس فسيُنظر للأمر من زاوية أمن السلطة قبل أي اعتبار آخر. هو سر من جبَل أسرار الحكم، الجبَل الذي لا حقّ للمحكومين في الاطلاع عليه، وهو بهذا المعنى شأن يخص التركيبة الحاكمة ومن هم معنيون بها خارجياً، في حال وصلت إصابة الزعيم إلى مستوى يتطلب البحث في ترتيبات خلافته. الإعلان عن إصابته في هذه الحالة سيكون لاحقاً على إنجاز تلك الترتيبات، ليأتي دور المسؤولين الأقل شأناً في تقديم مظاهر التعاطف والحب والولاء للزعيم المنكوب، وفي تجييش العامة للتسابق على فعل المثل. ولأن كل شيء محسوم ومحسوب مسبقاً ستأتي تظاهرة التعاطف على منوال “مات الملك.. عاش الملك”، أي متضمنة الولاء للبديل بصرف النظر عما إذا كنا إزاء نظام ملَكي حقاً أو رئاسي استبدادي.
البشرى السارة للزعماء العرب أنهم في الأصل أكثر حصانة من نظرائهم الغربيين إزاء عدوى الفيروس، فهم مع بطانتهم لا يحتكون بالفضاء العام الذي يزيد من احتمالات العدوى. ثمة مسافة في الظروف الاعتيادية تفصل الزعيم عن الشعب، وعندما يقرر هو الظهور في مناسبة عامة تتولى بطانته انتقاء “العامة” التي ستحظى بالاقتراب منه إلى حد المصافحة مثلاً، وتلك التي تبقى على مسافة محسوبة بدقة مخابراتية. بالمعنى الرمزي، وربما الواقعي، ليس جديداً أن يعيش الزعيم في وسط معقّم ومبالغ في حرصه وتخوفاته.
لم ينخرط زعيم عربي في المعركة ضد الوباء على النحو الذي فعله مسؤولون غربيون، لا يُعزى ذلك فقط لاستشرائه في الغرب، بل أيضاً لاختلاف جذري في مفهوم السلطة وممارساتها. ثمة عامل إضافي، إذ لو تخيّلنا حدوث العكس فليس لدى الزعيم العربي ما يقدّمه لجمهوره سوى النوع المعهود من الخطابة والإنشاء الركيكين، ليس لديه وعد بزيادة مخصصات البحث العلمي من أجل العثور على دواء أو لقاح، وليس لديه القدرة لإعلان زيادة في عدد أجهزة التنفس في وقت لا يستطيع الوعد بشرائها أو تصنيعها. هو، في أفضل أحواله، لا يملك سوى انتظار نتائج مراكز البحث العلمي المرموقة عالمياً، شأنه شأن العامة وهذا ما لا يروق له الاعتراف به.
ما سبق لا يذهب إلى امتداح غير مشروط لأداء زعماء غربيين، فالظهور المستمر لترامب لم يخلُ من عثراته المعهودة مضافاً إليه نصائحه الصحية المتهورة، أو التي ينبغي أن يُترك صدورها لمختصين طبيين حصراً. ربما كان رئيس وزراء إنكلترا الظاهرة الأبرز بسبب استهانته بالوباء، واستهانته بأرواح ضعيفي المناعة عندما طرح الحل باتباع سياسة “مناعة القطيع”، لتأتي إصابته بالفيروس كمفارقة قاسية.
رسائل التعاطف مع بوريس جونسون تقدّم لنا أيضاً نموذجاً معبّراً عن مفاعيل الديموقراطية في أوقات الأزمات، بخلاف التعاطف المشكوك في صدقيته فيما لو كان زعيم عربي في وضع مشابه. زعيم حزب العمال المعارض قال: “خبر حزين بشكل رهيب. البلاد بأسرها تتعاطف مع رئيس الوزراء وعائلته في هذا الوقت الصعب للغاية”. صادق خان، عمدة لندن الذي لم يسلم سابقاً من بذاءة لسان جونسون، قال إنه يدعو لتعافي رئيس الوزراء سريعاً. جيريمي هانت، المنافس الحزبي السابق لجونسون، قال: “استمر في القتال يا بوريس.. البلد بأكمله خلفك”.
يفسّر لنا التعاضد الإنساني الطبيعي جانباً من تعاطف خصوم جونسون معه، أما اتفاق عبارات التعاطف على أن البلاد بأسرها تقف خلفه فهذا شأن سياسي يُردّ إلى حالة الطوارئ الحالية مثلما يُردّ إلى الديموقراطية نفسها. هي ليست مجرد عبارات بروتوكولية، الديموقراطية تجعلها محمّلة بذلك الصدق الغائب في تعاطف داخلي يناله زعيم في أنظمة الاستبداد. المقارنة في حد ذاتها مجحفة بين دول فيها أحزاب معارضة حقيقية وبلدان يكتم على أنفاس أهلها مستبد، وهي مقارنة قد لا تخلو من محاذير تكرار ما نعرفه جميعاً.
لنفترض مرة أخرى إصابة مستبد عربي بكورونا، ولندع جانباً مظاهر التعاطف الداخلية الإلزامية أو شبه الإلزامية. ثمة معضلة أخلاقية يصنعها الاستبداد، وتتعين بأولئك الذين يتمنون سراً عدم نجاته، أو يعبّرون عن تمنياتهم علناً لأنهم بعيدون عن إرهابه. ربما علينا استخدام التعبير الأدق؛ الشماتة. رغم أن تراثنا يحتوي الكثير مما يردع الشماتة بالمصاب أو الميت، ستنزل إصابة مستبد بكورونا كأنها بشرى على الغالبية من “شعبه”. إزاء وباء أعمى، يفترض الحس الإنساني العام التعاطف “الأعمى” مع ضحاياه، إلا أن الاستبداد تولى في ضحاياه قتلَ ذلك الجانب الإنساني البسيط. هناك فارق قد يكون جوهرياً؛ الشماتة تأتي من العجز على التغيير، وعندما يقوم “القدر” بالمهمة فهذا مُرحّب به. على الأرجح يدرك المستبد العربي ذلك، ولعله يمنحه حافزاً إضافياً للوقاية من الإصابة.
المصدر: المدن