لبنان الجديد:بين الثروة الوطنية والخطر الإقليمي وحكم الميليشيا

كتب الدكتور *رائد المصري مدير مركز الراصد الإخباري العربي والدولي:

 

تحتار الألْسُن والكتابات من أين تبدأ في شرح وتأصيل إرتكابات السلطة الحاكمة في لبنان بزعاماتها ومافياتها وعمائمها التي تتلطَّى خلف المقدَّس الديني، وترتكب كل موبقات العصر في الفشل والتقصير وممارسة الكيدية واللُّصوصية والنَّهب المنظَّم عبر ميليشياتها التي سرَّحتها في إدارات الدولة ودوائرها، فهذه السلطة بزعاماتها الطائفية الستَّة إرتكبت أفعالاً وإفتعال الخطاب الفئوي المذهبي من أجل الإستقطابات الحادة في الشارع اللُّبناني ومنع الإحتكام الى الدستور والديمقراطية، ولأجل ذلك كان التمهيد بغية ممارسة اللُّصوصية والنَّهب وشفْط خيرات الدولة، طيلة عشرات السنين حتى أوقعوا الكيان في حُفْرة إنهيارات خطيرة..

هذه السلطة ضربت القضاء ومنَعته من ممارسة عمله، وهناك الكثير من الأمثلة تُضرب، آخرها جريمة مرفأ بيروت ومنْع المحاسبة.

هذه السلطة إستفادت من خدمات حاكم مصرف لبنان، وإرتكبت كلَّ أنواع السَّمسرات وصفقات المال والهندسات المالية، وهي تمنع الكابيتول كونترول، وتمنع وتعطِّل معه مساعدة صندوق النقد الدولي، وكذلك إعادة اموال المودعين وأصحاب الحق ممَّن وثقوا بالدولة ومصارفها وأودعوا كلَّ جنَى العمر فيها.

هذه السلطة تآمرت على النازحين السوريين الذي باتوا يشكِّلون عبْئاً وضغطاً على البنى التحتية اللبنانية، ولم تتعاطى بمسؤولية، لا مع الغرب ولا مع سوريا من أجل إعادتهم،فهم لا يملكون القرار السيادي، بل مجرَّد منفِّذين للأوامر الخارجية..وسنشرح ذلك تباعاً..

هذه السلطة أضعفت الجيش والقوى الأمنية، لتبرِّر خلط أوراق كل الإرتكابات من حدود لبنان البرية والجوية والبحرية والتهريب وغيرها من إنتهاكات للقوانين وضرب للسيادة والكيان.

اليوم لبنان واللُّبنانيين أمام واقع جديد يتعلَّق بمستقبل أبنائه، حول النفط والغاز وبغض النظر عن عنتريات التفاوض والتنازل الذي سبق وتمَّ بفعل المرسوم 6433، ليست هناك تقديرات دقيقة لمخزونات لبنان من الغاز والنفط، حيث هناك مؤشرات بأنَّ القيمة تفوق الـ1000 مليار دولار، تحصل الشركات منها على نسبة الثلث والباقي يكون من حصة الدولة اللبنانية.

فما تبقى يقدر بمبلغ 600 مليار دولار أو اكثر، ومنطق الأمور يقضي بإيداعها في صندوق سيادي ينشأ لهذه الغاية،كإحتياط وطني مثل الذهب يُمْنع التصرُّف به، ويُستثمر لدعم لبنان مالياً وإقتصادياً، ويقدم جزء صغير محدَّد من هذه الأموال في عملية النهوض والإنماء.

فالاستثمار في هذه المخزونات يجب أن يحصل سريعاً،فور التوقيع على الإتفاقيات غير المباشرة مع إسرائي، وعلى هذا الأساس يبدأ التعافي لهذا البلد المنكوب والمُنهك، فيحصل على قروض وافرة سنوية ويرتفع تصنيفه السيادي بما يقوي من إقتصاده وإستثماراته.

وهذا يؤدِّي طبعاً الى إنهاء معاناة كلفة الكهرباء والتي هي أم المصائب وأُهْدِر فيها 45 مليار دولار ولا كهرباء..لكن الهواجس لا تزال كامنة ومخيفة حول لبنان، حيث إتفاق الترسيم لم يبدأ ويخشى من عنتريات فارغة قد يطرحها البعض ممَّن لديه فائض القوة التي إصطدمت بكلِّ مكونات الطوائف في لبنان وتُعطَّل سير لبنان كما عطَّلته منذ بدء العام 2003…

هذا فضلاً عن العوامل الإقليمية والدولية والإستقطابات الحادة التي بدأت تأخذ منحىً حاداً بين روسيا والغرب على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، وسلاسل إمداد النفط والغاز على ساحل المتوسط، وتصيب لبنان شظايا هذه الحرب والمواقف جراء إستثمار الغاز إذا شعر أحد ما بأنه مُستبعَد عن الصفقة..

لكن الأهم والأخطر هو أنه إذا تمَّ إتفاق الترسيم وأُتِيح للبنان الإستثمار في ثرواته، فتنطلَق يد القوى السياسية المحلية وسلطتها وميليشياتها في هذه العملية من دون ضوابط، فيستباح الصندوق السيادي وتُهدر الثروة الوطنية كما أُهْدرت مئات المليارات من الدولارات حتى اليوم.

فلبنان لن يكون ما بعد إستثمار الغاز والنفط كما قبله، حتماً سيتهافت عليه الجميع للحصول على موطِئ قدم فيه، وهي قضية ينظر إليها بإيجابية لكن سلبياتها كبيرة ويجب أن تكون بالحسبان..

فإيران لديها نفوذ مهم في لبنان من خلال حزب الله وبإعترافه مرات عديدة، خصوصاً بعدما أمْسك بالسلطة حديدياً منذ عام 2016 بإنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، فبات يقرِّر أنواع الحكومات التي يريد، ونوع الأكثريات البرلمانية، وعمل على إخراج الحريري والسُّنة مع حليفه التيار العوني من المعادلة السياسية اللُّبنانية بالكامل،وحوَّل الحالة المسيحية الى مجموعات أحزاب فاشلة متنافسة ومتناحرة تسعى لزيادة أعدادها البرلمانية، بحيث صارت قوى سياسي تتلهَّى بصغائر الأمور، فلا رؤية سياسية واضحة لديها،وهي غاطسة في الخطاب الفئوي التحريضي، وغارقة في شرنقتها الطائفية، متوهِّمة وواهمة لجماهيرها بأنها تدافع عن حقوق المسيحيين، ففقدت وزنها،وصار عملها إما التأييد أو الإعتراض على ما يفعله حزب الله.

وبالتالي مع التطورات في الإقليم والعالم، بدأت اللعبة تضيق بوجه حزب الله وحالة الإعتراض تتوسَّع على ما يصنعه، خاصة مع بدء العد العكسي لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية، حيث ظروف اليوم هي ليست كما كانت أيام المجيءبعون، فالانهيارات إقتصادياً ومالياً ومعيشياً ومؤسساتياً، واكتشاف جزء كبير من اللبنانيين أن أسباب غرق البلد هي في أن حزباً مسلحاً يهيمن على القرار ويفرض كل مرة شروطه، ويحمي الفساد والفاسدين، وهو ما أدّى إلى إيصال مجموعة من النواب الجدد من ممثلي حركة انتفاضة 17 تشرين 2019 وأحدث تعديلا في موازين القوى داخل البرلمان لصالح المعارضة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى مأزق يضاف وهو المتعلِّق بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لإستخراج النفط والغاز الموعودين، فإسرائيل أنْهت منذ سنوات عمليات التنقيب وتستعد لإستخراج النفط والغاز في نهاية سبتمبر/ أيلول المقبل، أما لبنان فلن يستفيد إلاَّ بعد ست أو سبع سنوات لكي يبدأ بالاستخراج.

فإسرائيل مستعجلة أكثر من القوى السياسية اللبنانية الحاكمة للاستخراج والبدء بالتصدير رغم الأزمات الطاحنة في لبنان، وهي عقدت إتفاقات مع الاتحاد الأوروبي لتزويده بالغاز، ومصلحتها إيجاد تسوية لهذا النزاع في أسرع وقت، والولايات المتحدة كوسيط تضغط بإتجاه تسريع الاتفاق وتريد الحفاظ على أمن إسرائيل وتجنيبها أي مغامرة عسكرية، وأمين عام حزب الله حسن نصرالله يهدّد بالحرب، في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق قبل نهاية سبتمبر/ أيلول بإعتبار أنه يخوض معركة الدفاع عن حقوق لبنان، وتهديده هو الذي يفرض الحل، علما أنه يعلم والكلُّ يعلم أن التهديد والقدرة على الحسم ليسا في يده خصوصاً في مِلف يتعلَّق بسلاسل وأمن الطاقة العالمي، بل هو في يد طهران التي لا تريد أن تُغْضِب واشنطن، أملاً في العودة إلى طاولة مفاوضات النووي وكذلك في المِلف الرئاسي..هي مرحلة صعبة محكوم بها لبنان على أكثر من جبهة في الداخل وفي الخارج…

*د.رائد المصري/أستاذ محاضر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

كاتب سياسي عربي ودولي.

مدير مركز الراصد الإخباري العربي والدولي.