كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:
ما سيقلب الموازين أو يعرّي الضعف البنيوي هو قرار الاجتياح الإسرائيلي البرّي لغزّة. مثل هذا القرار سيورّط إسرائيل في جبهات حرب متوازية، في غزة، وفي الداخل الإسرائيلي، وفي لبنان، وربما أيضاً في صواريخ إيرانية موجّهة مباشرة من إيران للمرة الأولى في العلاقة الإيرانية – الإسرائيلية. القيادة الإسرائيلية قد ترى أن لا خيار آخر أمامها سوى انتهاز الفرصة لتدمير البنية التحتية العسكرية والقيادية وحتى المدنيّة في غزة دماراً كاملاً للقضاء على “حماس”، ولاحتواء الداخل، ولاستعادة الوقار بالرغم من خطورة فتح الجبهات عليها. في المقابل، ترى “حماس” وإيران أن الاجتياح البرّي الإسرائيلي لغزة هو الفرصة الفريدة المواتية لتدمير إسرائيل عبر صواريخ تطويقية من الأراضي الإيرانية واللبنانية والسورية وعبر التفعيل العسكري للغضب الفلسطيني داخل إسرائيل والذي ينتفض مسلّحاً للمرة الأولى.
إنها حرب إيرانية – إسرائيلية ما زالت تتفاعل بالنيابة لكن توسّعها الى مواجهة صاروخية مباشرة بات مطروحاً على الطاولة في غُرف العمليات. الأيادي الأميركية والروسية والأوروبية والعربية مقيّدة بعدما رفضت إسرائيل مساعي مصر لاحتواء التطورات. إدارة بايدن ضائعة ومتوترة ترتجف خوفاً ليس على الحدث الفلسطيني – الإسرائيلي وإنما على مصير المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي جعلت منها إدارة بايدن والدول الأوروبية الأولوية القاطعة لها. طهران واثقة أن مفاوضات فيينا التي تتعلّق بها واشنطن والعواصم الأوروبية ستبقى سكّة مستقلة موازية ولن تتأثر بالتطورات مع إسرائيل. حتى وإذا أثبتت التطورات عدم صحة هذا الاستنتاج في طهران، فإن القرار الإيراني هو لإعطاء الأولوية للفرصة التي تبدو لها مواتية: فرصة تدمير إسرائيل إذا أقدمت على تدمير غزة لتدمير “حماس”.
التطوّرات الميدانية متسارعة لدرجة استحالة حسم التوقعات والسيناريوات. مع كتابة هذه السطور، قد تكون إسرائيل عدلت عن فكرة التورّط بريّاً في غزة، أو قد تكون بدأت عملياتها البريّة استنتاجاً منها أنه لا يمكن لها التراجع الآن أمام صواريخ “حماس” لأن التراجع سيُترجم نفسه تعزيزاً للجبهة الداخلية ليس في غزة فحسب وإنما لدى عرب إسرائيل. فلقد فلتت الأمور من أيادي إسرائيل عندما تعجرفت وتمادت وفعّلت آلة القتل في المسجد الأقصى وضد المُصلين والمدنيين كما عندما فتحت أبواب العنف والاعتداء أمام المستوطنين المتطرّفين الإسرائيليين الذين يفهمون فقط لغة الكراهية للعرب والفلسطينيين، فظهرت بشاعتهم أمام العالم أجمع.
الاستعدادات العسكرية التي تحدّثت عنها مصادر استخبارية مُطّلِعة على التحركات الإيرانية والتركية والإسرائيلية تحدّثت عن تسلّم “حماس” مؤخراً 600 صاروخ من إيران ومعدّات عسكرية أخرى وصلتها عبر باخرة “مجهولة” الهوية أكدت المصادر أنها حملت على متنها معونات عسكرية تركية. هذا الى جانب شحنة أسلحة إيرانية ضخمة من إيران الى “حزب الله” عبر سوريا.
الفارق بين ما تريده أنقرة وما تعمل عليه طهران هو أن تركيا تريد قيادة حملة عالمية ضخمة لتعرية ما تقوم به إسرائيل ولحشد الدعم للفلسطينيين، فيما إيران غير مهتمّة بالحملة العالمية وكل ما تراه الآن هو أن تفاقم الأزمة الراهنة سيؤدي الى تدمير إسرائيل.
تقول المصادر الاستخبارية المطّلعة على التفكير العسكري والاستراتيجي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إن “حزب الله” “متأهّب وجاهز” لتفعيل الجبهة اللبنانية عبر إطلاق الصواريخ الإيرانية على إسرائيل حالما تبدأ إسرائيل الاجتياح البرّي لغزة. المنطِق العسكري وراء ذلك هو أن إسرائيل عاجزة عن الصمود أمام جبهتين مفتوحتين هما غزة ولبنان. ثم أن “الحرس الثوري” في طهران جاهز لإطلاق الصواريخ مباشرة من إيران الى المواقع الإسرائيلية.
وراء هذا المنطِق العناصر التالية: إن إسرائيل تخشى فتح الجبهة اللبنانية أكثر مما تخشى جبهة غزة نظراً للإمدادات الإيرانية العسكرية المتفوقة الى “حزب الله”. إن إسرائيل خائفة جداً من العنف الداخلي الذي بدأ يخرج عن سيطرتها، إضافة الى خطورة الاجتياح البرّي لغزة. لذلك فإن إسرائيل في ورطة، بحسب استنتاج المحور الإيراني الذي يقع “حزب الله” و”حماس” تحت لوائه. ثم أن الأجواء السياسية الدولية هي لصالح المنطق الإيراني، كما تعتقد طهران، وبالتالي هذه لحظة قد لا تكرّر نفسها، يجب اقتناصها.
القيادة الإيرانية تراهن بالدرجة الأولى على دول الاتحاد الأوروبي وبالذات الدول الأوروبية التي تفاوضها في فيينا على إحياء الصفقة النووية JCPOA وتعتبرها ذات أولوية مصيرية لها. هذه الدول، المانيا وفرنسا وبريطانيا، باتت مهووسة بإحياء الاتفاق النووي مهما كلّف الأمر من رفع عقوبات تُمكّن “الحرس الثوري” الإيراني من تنفيذ أيّة سياسة خارجية يعتمدها – بما في ذلك نحو إسرائيل. ما تراهن عليه طهران هو اكتفاء الدول الأوروبية بالتعبير عن التعاطف مع الفلسطينيين مع انتقاد إسرائيل وعدوانها مع إعطاء الأولوية القاطعة للاتفاق النووي JCPOA.
حتى لو اتُخِذ قرار فتح الجبهة اللبنانية، لن تُقدّم الدول الأوروبية سوى التعاطف والمواقف الإنشائية مع السيادة اللبنانية وضد صواريخ “حزب الله” وصواريخ “حماس” من دون تحميل إيران أية مسؤولية مباشرة. فمفاوضات فيينا دجّنت الأوروبيين. وطهران تدري ذلك وتُحسن استغلاله لصالحها.
ثم هناك روسيا. روسيا التي يعتبرها الفلسطينيون أنها باتت شريكة مع إسرائيل بعيدة من تقاليد تعاطفها مع الفلسطينيين، هي شريكة فعليّة مع إيران و”حزب الله” في سوريا، إنما ليس بالضرورة مع “حماس”. “حماس” لا تعني كثيراً لروسيا. موسكو ليست مؤهّلة لتأدية دور المفاوض أو الوسيط لأنها، في الواقع، غير راغبة بمثل هذا الدور بين إسرائيل وفلسطين.
كل ما تتحدّث عنه هو تلك “الرباعية” التي تضم روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. تلك “الرباعية” التي باتت بالية بعدما عجزت عن القيام بأي خطوة فعليّة ذات مردود على صعيد صنع السلام الفلسطيني – الإسرائيلي. فالأوروبيون رفضوا استخدام أدوات التأثير في السياسات الإسرائيلية، أي العقوبات، واكتفوا بالمساعدات للفلسطينيين كهبات تخديرية. روسيا انسحبت من الدور الذي مارسه الاتحاد السوفياتي، وباتت براغماتية، فاقتربت أكثر مع إسرائيل وابتعدت من “حماس” والسلطة الفلسطينية.
الأولوية الروسية هذه الأيام هي للّقاء الذي سيُعقَد بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي انتوني بلينكن في 19 الشهر الجاري حيث من المتوقع أن يبحثا في العلاقات الثنائية الفائقة الأهمية والممتدة من أوكرانيا الى القمّة بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين المفترض عقدها في 15 حزيران (يونيو) المقبل. بايدن سيجتمع بالأوروبيين وبأعضاء حلف شمال الأطلسي في 7-8 حزيران (يونيو) الأمر الذي يهم موسكو كثيراً. لكل هذه الأسباب، إن التطوّرات على الساحة الإسرائيلية – الفلسطينية مُقلِقة لروسيا لكنها ليست ذات أولوية.
الرئيس جو بايدن مضطر أن يولي هذه التطوّرات الأهمية ليس فقط لأن إسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة وجزء من البنية السياسية الأميركية المحليّة، وإنما لأن كيفية تعاطيه مع الحدث الإسرائيلي – الفلسطيني – الإيراني قد يؤثّر في أولويته المتمسِّك بها وهي: إحياء الاتفاق النووي مع إيران والخضوع لشروط استبعاد سلوكها الإقليمي وصواريخها عن المفاوضات النووية. هذا هو بيت القصيد. هوذا الامتحان الحيوي الذي تمر به سياسة بايدن الإيرانية ومفاوضات فريقه في فيينا.
إحدى مشاكل الرئيس جو بايدن أنه لن يكون قادراً على تأدية دور الوسيط بين إيران وإسرائيل لنزع فتيل التصعيد في غزة أو داخل إسرائيل أو على الجبهة اللبنانية إذا اشتعلت. حالياً، هناك تعاطف نسبي في الإعلام الأميركي مع الفلسطينيين لكن ذلك سينقلب رأساً على عقب إذا ما تطوّرت الأمور الى مواجهة عسكرية بين إسرائيل و”حماس” و”حزب الله” وإيران. سيحتار كثيراً الإعلام الأميركي الذي، شأنه شأن فريق بايدن، بات مهووساً بالانقلاب على سياسات دونالد ترامب نحو إيران ومهووساً باستعادة العلاقات الحُبيّة معها التي نسجها باراك أوباما.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمتحن فريق بايدن والإعلام الأميركي على السواء لربما في أصعب الملفات نظراً للانحياز التلقائي الذي اعتادت عليه الولايات المتحدة عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل.
اليوم تقول القيادة الإيرانية للرئيس الأميركي جو بايدن إنها غير خائفة من امتحانه وزجّه في زاوية الاختيار بين دعمه لحليفه الإسرائيلي وبين شغفه لإحياء الاتفاق النووي مع إيران بأي ثمن كان. فهي مرتاحة مع نفسها وتريد طبع الشمع الأحمر على تعهّد جو بايدن بعدم التدخل في السلوك الإيراني الإقليمي وباستبعاده ملف الصواريخ، وهكذا تفعل. هكذا تفعل وفي ذهنها التمني ضمناً لو ترتكب إسرائيل خطأ اجتياح غزة برّاً لأن فيه مشروع تدميرها.
يبقى أمر آخر في غاية الخطورة والأهمية. لعل صواريخ “حماس” نشّطت الاندفاع لدى قطاعات من عرب إسرائيل نحو إبلاغها أن الانفجار الداخلي خيار وأن الوضع الراهن لم يعد يُطاق لأنه عنصري وتمييزي ضدهم. الخوف، كل الخوف، هو أن تستخدم إسرائيل صواريخ “حماس” وتصعيد عملياتها في الداخل الإسرائيلي بما يوفّر الذريعة لإجراءات إسرائيلية مصيرية ضد الفلسطينيين – عرب إسرائيل – لتقوم بالطرد الجماعي لهم ما يساعد جذرياً في حل المشكلة الديموغرافية. فالإبعاد القسري هو لربما الحل الوحيد لمشكلة إسرائيل الديموغرافية. وصواريخ “حماس” الإيرانية قد تكون الذريعة والوسيلة لتمكين إسرائيل من تحقيق هذا الهدف المصيري.
مصر سترث غزّة ممزّقة مدمَّرة إذا ما نفّذت إسرائيل تعهّدها بتدمير البُنية التحتية في اجتياح برّي واحتلال موقّت لأن إسرائيل لا تريد غزة بل تعتبرها مشكلة مصر.
لبنان سيدفع ثمناً باهظاً إذا اتخذت طهران قرار تفعيل صواريخها عبر وكيلها “حزب الله” من الجبهة اللبنانية.
مَن يُدمِّر مَن وماذا ومتى؟ مَن سيدفن رأسه في الرمال آملاً في أن تزول غيمة إلغاء الآخر؟ فيما إدارة بايدن متوتّرة، وإسرائيل متهوّرة، تتصوّر إيران أن هذا زمنها الذَهبي لتحقيق أهدافها. فلنرَ.