كتب حنا صالح في “الشرق الأوسط”:
لا العودة إلى المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية جنوباً برعاية أميركية، ولا زيارة وزير الخارجية الفرنسي لودريان إلى بيروت، تعني أن لبنان بات عشية مرحلة الحلول التي يمكن أن تساعد على انتشاله من القعر، حيث دُفع، كما لا تعني أن مرتبة لبنان تقدمت على رادار الاهتمامات الدولية.
من المباحثات في الناقورة إلى مباحثات رئيس الدبلوماسية الفرنسية في بيروت، كل التركيز هذه الأيام على فيينا والتطورات المرتبطة بالاتفاق النووي، وتبذل المحاولات لفك ألغاز التصريحات التي صدرت وتفقيط النتائج. والاهتمام منصب أيضاً على ما يمكن أن يرشح من معلومات عن الجولة اللافتة في المنطقة التي يقوم بها عضو مجلس الأمن القومي الأميركي بيرت ماكغورك، وتشمل دول الخليج ومصر والأردن. وهي أول جولة لمسؤول أميركي رفيع منذ دخول الرئيس بايدن البيت الأبيض، ويراد منها تلافي أخطاء العام 2015 عندما أُبقيت المفاوضات مع النظام الإيراني طي الكتمان.
لعبت اليد الإيرانية الطويلة دوراً رئيسياً في تجميد مفاوضات الناقورة فور انتهاء الانتخابات الأميركية بسقوط الرئيس ترمب. تلاها تباينات في الموقف الرسمي بين جهود هدفت إلى تحديد الحدود والحقوق، وقابلتها محاولات استثمار وتوسل مقايضة مع الأميركيين لرفع العقوبات عن النائب باسيل، ما أضعف الموقف اللبناني. والأكيد أنه بعد تسوية العام 2016 بات أمر مثل تشكيل حكومة في لبنان خارج أيدي الأطراف اللبنانية، وخارج السقوف المرتفعة التي يلوّح بها رئيس الجمهورية وصهره! كما أن الأمر يتجاوز قلق الآخرين الذين يغطون أهدافهم بمعادلات حسابية تتناول عدد الأعضاء رغم وجاهة الأمر.
كل ممارسات الطبقة السياسية اللبنانية تتم على وقع هذه المفاوضات. هذه الجماعة السياسية وجدت في العام 2015 وما تلاها أن الرياح الإيرانية هبت على المنطقة، فتم في العام 2016 انتخاب العماد ميشال عون مرشح «حزب الله» رئيساً! والكثير مما يدور الآن يستعجل تطور المفاوضات الدولية بضوء ما رشح عن تقدمٍ تحقق، فتراهن طهران على رفع للعقوبات استناداً إلى القرار الأميركي بمنع الانزلاق إلى الحرب، ما تفسره الجهات الموالية لطهران بأن زمن فك العزلة عن حكام إيران آتٍ، وسيكون بوسع النظام الإيراني تطوير قدرات وأدوار نقاط الحماية المتقدمة، من ميليشيات أنشأها أشبه بجيوش رديفة، والتوسع في الحروب بالوكالة لفرض الإملاءات، على طريق إقامة «إيران العظمى» التي تحدث عنها محسن رضائي.
نفتح مزدوجين كي نشير إلى أنه رغم حديث التقدم وبدء بعض الصياغات، فإنه من المبكر توقع النتائج، فهناك عقوبات مرتبطة بالأمن القومي الأميركي، وتتصل برعاية الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان، طالت «الحرس الثوري» وكيانات أخرى، لا يمكن المساس السهل بها، لأن الخطأ في الحساب يُكلف الديمقراطيين خسارة الأغلبية، ما يعني تعليق كل الأولويات التشريعية التي يراهن البيت الأبيض على إقرارها.
عندنا تبدو حكومة تصريف الأعمال وقد استقالت من مسؤوليتها.. أهدرت الأشهر ولم تبلور معياراً لتحديد من هي الأسر الأكثر حاجة، والتي يجب أن تحوز بطاقة تمويلية، كي تستمر سياسة الرضوخ لمشيئة «حزب الله» والمنظومة السياسية والاحتكارات، في دعم سلع استراتيجية يتم تهريب نحو 80 في المائة منها إلى النظام السوري، وبالتالي نهب المتبقي من الاحتياطي الإلزامي وهو ودائع المواطنين، وفيما لم تتخذ أي خطوة لمكافحة الفساد المتفشي ولم يوجه اتهام لمسؤول، رغم أنهم تبادلوا تهم فساد تدينهم. كما أن القضاء الذي تبلغ من المدعي العام السويسري أن تحقيقاً فتح في حسابات حاكم مصرف لبنان بشبهة نهب وغسل أموال، فإن الحاكم سلامة مستمر في موقعه على رأس المصرف المركزي، وكأن شيئاً لم يكن! وبالتوازي تستمر الضغوط لطي التحقيق في تفجير المرفأ، وبعد 275 يوماً على الجريمة لا شيء في التحقيق وكأن مجرد صدفة حولت لبنان إلى منصة «نيترات الأمونيوم» التي دمرت نصف بيروت.
مقابل إدارة الظهر للاحتياجات الأولية للناس، يتوالى مخطط تفتيت النسيجين السياسي والاجتماعي، وتشويه صورة البلد الذي حوّلوه إلى منصة تهريب الكبتاغون والمخدرات، لتمويل الدويلة وأنشطة «الحرس الثوري». ولا تثير الإفلاسات أي اهتمام رسمي رغم الأرقام الفلكية للبطالة، إذ سيتجاوز عدد العاطلين عن العمل الـ700 ألف في نهاية العام. بالمقابل تبرز ممارسات تستثمر في المجاعة، ويُراد من كل ذلك خدمة مخطط تحويل اللبنانيين إلى لاجئين في وطنهم، ينتظرون «كراتين إعاشة» يجود بها زعماء النهب وأحزابهم الطائفية. وفي هذا السياق تستمر المباريات عن حملات الإعاشة كما أيام الحرب، وهي إن سدت الرمق إلى حين، فإنها لا ترد للمواطن إلاّ القليل مما كان يحصله بتعبه وعرق جبينه وكرامته المصونة.
مع الانسداد السياسي نتيجة القبضة الثقيلة لنظام الملالي من خلال حزبه، والانهيار المتدحرج والمخاطر التي تحيق بالجسم القضائي والعدالة، وتمدد الشعبوية باتجاه الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتداعيات سياسات عزل لبنان وإلحاقه بمحور الممانعة، تبدو الرشوة أولوية الطبقة السياسية، من أجل إعادة الاعتبار لحالة زبائنية خطيرة، بتجديد التبعية لكل من كانوا سبب بلاء الشعب اللبناني، بحيث يكون متاحاً إعادة رسم حدود للمناطق والكانتونات الطائفية ومحاصرة جو «17 تشرين» التغييري! واستتباعاً لهذا المخطط يستعدون للتمديد للبرلمان الفاقد للشرعية، والسوابق موجودة، ويعوّلون على تفتت الشارع، كذلك تتكثف التحضيرات لبلورة فتوى بقاء عون في الرئاسة إن «تعذر» انتخاب رئيس جديد! ولن يتأخروا عن ذلك!
وسط صورة حصار المواطنين بالوباء والمجاعة وإغراءات القوى الطائفية النافذة، فإن انتشال البلد من الحضيض الذي بلغه هناك خريطة طريق لا بديل لها لبلورة ميزان القوى القادر على كسر الحلقة الجهنمية والارتهان لأجندة مصالح النظام الإيراني. وتجربة «17 تشرين» كحالة شعبية أبرزت في حينه، رغم عفويتها، أنه يمكن التعويل على ميزان القوى الشعبي والسلمي لمواجهة المشروع الآخر، مشروع «حزب الله» المستند إلى مكون شعبي وعسكري وأمني.
إن توازن القوى هو ما يردع دعاة التسلط، ويعري طبقة سياسية مارقة سلّمت قرار البلد إلى محور الممانعة مقابل مكاسب خاصة. هنا تبدو خريطة الطريق المطلوبة هي التي تستند إلى عمل سياسي قاعدي منظم يحمل مطالب الناس ويوازن بين أولوياتهم والأولويات الوطنية، فيحفز الكثير من المتضررين وأصحاب المصلحة على الانضمام إلى جهود بلورة قوة الاجتماع اللبناني، ما سيفشل الكثير من الرهانات. ومن شأن هذا المنحى، إذا ما نجح في بلورة ميزان قوى جدي يضيء على البديل السياسي، الأمر الذي يضع لبنان فعلاً لا قولاً على رادار الاهتمام الخارجي.. إذ ذاك تكون جريمة اختطاف الدولة أمام الحائط المسدود، ويحين أوان التسوية المختلفة التي تصب في منحى التغيير الحقيقي الذي يطوي نظام المحاصصة.