كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
ننسى في متاهات الحياة ان في الدنيا موتاً. أما هم، أطفال حيّ الغرباء في طرابلس، فيلعبون في أماكن، نبتت فيها أزهار صفراء، وتقوم عليها شواهد، ويقولون عنها: مقابر. فهل تصدقون ان المقابر قد تتحول لبعض الأطفال ساحات للعب؟ والأموات يُصبحون مصدر عيش؟ وأن الطفولة في جنبات كثيرة تتبدد فيكبر الصغار قبل الأوان في مجتمعات لا تُميّز بين مقبرة وحياة؟
حين نرى، ونحن نمشي في سبيلنا، سيارة دفن الموتى، نشيح بنظرِنا عنها، نشعر بخوفٍ، بقلق، بانزعاج، برهبة، أما هم فيركضون نحوها مهللين فرحين معللي الأنفس بعشرة آلاف ليرة أو عشرين ألفاً (إذا كان المرء شهماً كريماً) لقاء تنظيف المقبرة ورش القبر بالمياه.
قصدنا المكان. زقاق ضيق جداً. مطبات وحفر. وكثيرات من النسوة اللواتي ظننّ أننا نحمل مساعدات. نحاول أن نقنعهنّ بالعكس لكنهن لا يُصدقنَ. يشددن بنا يميناً ويساراً مشكلين ما يُشبه “الكماشة” حولنا بأجسادِ عشرات النساء والأطفال الذين يلهثون من أجل الحصول على مالٍ وغذاء. طفلٌ يتسلّى بجرّ كرتونة فيها طفل آخر ويضحكان معاً كثيراً. وطفلة ٌ تلعب “بيت بيوت” مع صديقتها. وحنايا المقبرة هي البيت. مشاهد بالفعل موجعة في مجتمعٍ مهمل، مهمّش، منسي في القرن الواحد والعشرين.
الطفل شادي (13 عاماً) يبدو “دينامو” الحيّ. يمشي ومعه تسعة أو عشرة فتيان. نراه يتغامز معهم ويضحكون. التعساء أيضاً يضحكون. ونتأكد من تعاسة شادي بعد أن يبدأ في إخبارنا بحالِه. نسمع منه ما يجعلنا نخال أننا أمام رجلٍ لا فتى. فما قصّة شادي؟
ننتظره الى حين ينتهي من تنظيف إحدى المقابر. ننظر إليه وهو فرحٌ في جني خمسة عشر ألف ليرة بدل عمله. نجلس بين الضرائح، في محاذاة الشواهد، وننصت إليه بانتباه شديد وهو يُكثر من ترداد “الحمدلله”. يقول: “اسمي شادي، أعمل، منذ كنت طفلاً، في المقابر لأساعد أهلي. منذ بلغت سن السادسة وأنا أعمل هنا. أنزع الأعشاب، أرفع النفايات، وأجلب المياه الى زوار القبور. أتقاضى مالاً من الزائر، “شو بيطلع من خاطرو باخد”، وأعطي أهلي كل ما أجنيه “شي عشرين تلاتين ألف ليرة” في آخر النهار. والدي مريض. مريض أعصاب. أراه يتألم ليلاً ونهاراً ولا أحد يبالي به وبنا… لا أحد”. يضع شادي وجهه بين كفيه، ينظر الى رفاقه، ينظر الى المقابر، يُمسك بعصا يغرزها بين حين وآخر في الوحل ثم يرفعها بقوة. نراه متوتراً. يحمل همّاً أكبر بكثير من عمره. نراه طفلاً لا ملاذ له ولا أفق سوى أن يكبر في بقعة من يحيا فيها لا يعيش. ومن يعِيش بين الأضرحة يكون على هامش الحياة، مختلفاً بنظر المجتمع.
يتطلع شادي نحو السماء مردداً: “لا أخاف من الموت ولا من الجثث والقبور والمقابر. أخاف فقط من الله حتى ولو أبقوني طوال الليل وحدي مع الأموات. إسألي كل العالم شادي “شي بيخاف”؟ سيجيبونك: لا. لا أخاف إلاّ من ربّ العالمين”.المقابر عالمه ومجتمعه.
شادي “قبضاي”. هكذا يبدو. هذا ما أشعرنا به. لكن، من اين يستمد قوته؟ هل يبكي؟ هل يصرخ؟ هل يلعب؟ هل ينام بلا عشاء؟ يجيب “الحمدلله الحمدلله. الله خلقني، وهو قادر على كل شيء، فلماذا أخاف من الموت ومن الموتى؟ الموتى لا يخيفونني. الأحياء يخيفونني أكثر. ويستطرد: نحن ثلاثة أولاد. صبيان وبنت. ولدت هنا وأكبر هنا أما أصلي فمن عكار العتيقة. البارحة تناولت قبل النوم خبزاً وصعتراً. أحياناً نأكل الجبنة. وأحياناً ننام بلا عشاء”. هل تناول البارحة العشاء؟ ينظر مجدداً نحو السماء كمن يريد أن يتهرب من الجواب. نكرر السؤال فيجيب: “ما تعشيت… الحمدلله”.
ليس سهلاً جعل شادي يتكلم حول كل شيء. هو ولدٌ ذكي علّمته الحياة ما لم يتعلمه كثير من البشر في عقود مديدة. نراه يتأنى في اختيار مرادفاته، وحين نسأله عن لبنان، يجيب: “لبنان قلبي”. لكن، ماذا قدّم لبنان له ولرفاقه؟ هل هناك من سعى في لبنان الى رفع الظلم والتهميش والفقر عن هذه البقعة الجغرافية التي يترعرع فيها؟ هل هناك من سأل عن صبيان يعيشون بين المقابر؟ يجيبنا وكأننا في وادٍ وهو في وادٍ آخر، وكأننا لم نفهم “الحياة”، بالقول: “من يملك المال “الله يرزقو” مرتاح، لا يرسل أطفاله الى المقابر ولا يبالي بأولاد الناس الذين يعيشون في المقابر، ولا يهتم بالطبع بمن أكل وشرب ونام”.
لا يعرف شادي، كما كل رفاقه، شيئاً عن السينما إلا الإسم. ولا يعرف أي شيء عن مدن الملاهي سوى أن الأطفال يذهبون الى هناك في الأعياد. أما رقائق البطاطا (الشيبس) “فيا ويلن من الله”. كان يشتري الكيس بمئتين وخمسين ليرة وأصبح بثلاثة آلاف ليرة. ووضعه لا يسمح له “بالفنكرة”: “كل همي أهلي وإخوتي”. ويعود ليكرر “والدي مريض، مريض جداً، مريض أعصاب. لا يعمل. وكل ما أتقاضاه أعطيه الى والدتي لتشتري لنا الطعام”.
كبُر شادي في بقعةٍ مهملة، متروكة، منسية، مهمشة، غريبة. كبُر وهو يناجي القبور وأهل القبور متيقناً أن الأموات قد يسمعون أكثر بكثير من أحياءٍ كثيرين. كبُر بلا لعبة ولا ثياب جديدة ولا مشاوير، “من التربة للبيت ومن البيت للتربة”، لكن الظروف التي يشبّ فيها لم تنجح في قتل الأحلام التي فيه. نسأله: بماذا تحلم؟ يجيب “أن أصبح دكتوراً”. طبيب ماذا؟ هل فكّر باختصاصٍ ما؟ “لا، بدي فوت على الجامعة وصير دكتور وعالج بيي”. يحتاج والده الى علاج كلفته ثلاثة أو أربعة آلاف دولار ولا تملك العائلة ثلاثمئة او أربعمئة الف ليرة.
نعود ونسأله: هل هو سعيد؟ هل هو طفل حزين؟ متى يبكي؟ هل يتمنى الذهاب الى المدرسة؟ لا يُميّز الطفل الذي ترعرع بين القبور بين مفهومي الحزن والسعادة لكن ما هو أكيد منه أنه لا يبكي أمام أحد غير “رب العالمين”: “لا أقبل أن يراني أحد ضعيفاً. أبكي وحدي. الإنسان “بينقهر” أحياناً. أشعر بالقهر حين لا أجد طعاماً في البراد. أشعر بالقهر حين تطلب والدتي مالاً لا أملكه”. أتمنى لو كنت طفلاً كما كل الأولاد. أدرس. ألعب. آكل ما أشاء ساعة أشاء. لكن، الحمدلله”.
هل يلوم الدولة على حاله؟ يجيب: “دولة؟ شو يعني دولة؟”. وصل الجواب.
يستخدم شادي مصطلح المال كثيراً. فهل الفاقة جعلته يحب المال؟ يجيب “لا، لا أحب المال لأن من معه ومن ليس معه سينتهي هنا في القبر”. رهيبٌ أن يصدر هذا النوع من الكلام من طفل يفترض أن يرى الضوء لا العتمة.
يرددُ شادي، أمام عدسة الكاميرا، نفس العبارات كما الببغاء. وحين تُطفئ الكاميرا يتحرر، يتحدث أكثر ويبدأ في الهرولة مع رفاقه، بين القبور، كما سرب العصافير. تصل والدته. تتحدث معه. فيهرع في اتجاه ما. فماذا به؟ ماذا أخبرته؟ يهمس أحد الصغار ممن يحومون حولنا: “هو حزينٌ على والده المريض”. نتذكر أنه أخبرنا أنه يهرب، الى حيث لا أحد، حين ينوي البكاء. نتركه مع حاله. ونسرح في أرجاء حيّ الغرباء.
حبال الغسيل تتدلى في كل مكان. مئة وخمسون عائلة لبنانية تعيش هنا على مساحة لا تزيد، مع المقابر، عن 4000 متر مربع. جبانة الغرباء تعود للوقف الإسلامي، ويدفن فيها كل غريب، ليست لديه مقبرة، ولم يكن لديه في هذه الدنيا سند. هنا يطلقون على كل الرجال “أبو سعيد”. كلهم بهذا الإسم. وأبو سعيد العلي هو الذي استلم المقبرة منذ البدايات قبل سبعين عاماً. وبدأ يتقاطر كل من ليس له بيت، من الغرباء، من عكار العتيقة، ومن جنسيات بالفعل غريبة، الى ضفاف المقابر حاجزاً مساحة مترين بمترين ليحيا فيها مع عائلته. كثر الأحياء وكثر الأموات. وباتوا يتشاطرون نفس المكان. هنا تتحقق مقولة: المسافة بين الحياة والمقبرة شجرة، نصفها للسرير والباقي للتابوت.
يا إلهي. يا لقساوة بعض المشاهد في هذه الحياة. يا لقهر البعض ممن تُركوا لمصائر لم يختاروها، ويناضلون لتجاوزِها. شادي أحد هؤلاء مع فارق أنه ما زال يحلم. ما زال يقول: لبنان قلبي. وسأصبح “دكتوراً” ووالدي سيستعيد صحته وسنتعشى مساء وننام. ومن يحلم يسعَ. ومن يسعى قد تتحقق أحلامه. فمن يدري قد يقف شادي بعد عشرين عاماً ويقول: أنا الدكتور شادي.