جاء في “الراي”:
لعلّها من المرات القليلة يكتسب «عيد العمّال» أكثر من رمزيةٍ في بلدٍ يكاد أن يكون الوحيد في العالم الذي تتعايش فيه بطالتان مُرْعِبتان: عُمّالية قياسية تقسو على شعبٍ انهارتْ دفعةً واحدةً كل صمامات الأمان المالية والمصرفية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يركن إليها في اطمئنانٍ «زائف» إلى ديمومة «المعجزة اللبنانية»، وسياسيةٌ صارت «مضْرب مثَل» خارجياً لدولةٍ «عاطلة عن العمل»، سلطاتُها معطّلة، ومسؤولوها مُنْغَمِسون في صراعاتٍ تحت عناوين… حق يُراد به باطل.
الأول من أيار اللبناني حلّ مُثْقَلاً بـ «ألقاب» كارثية تتوالى على الوطن الصغير الذي «تلتهمه» المؤشرات السلبية التي «تحفر» في جِراحه التي تتكاتف لتعميقها أزمةُ تشكيل الحكومة الجديدة التي تقف الأسبوع الطالع على مشارف محاولات جديدة لإنهائها «على أجنحة» عقوباتٍ فرنسية وُقِّعتْ «بالحبر السري»، مع الوقائع المتغيّرة في منطقةٍ وكأنّها في زمنٍ انتقالي بين مرحلةٍ طوتْها التحوّلاتُ اللاهبةُ التي تمدّدت على مدى العقدين الماضييْن وأكثر، وأخرى لم يكتمل تَشَكُّلها بعد.
من «بلد المليون عاطل عن العمل» مع تقديراتٍ (كان آخِرها لمنظمة العمل الدولية بالتعاون مع وزارة العمل اللبنانية) بأن معدلات البطالة بلغت نحو 37 في المئة في 2020 ومرشحة لأن ترتفع إلى 41.4 في المئة في 2021 بفعل تَدَحُرج الأزمة المالية و«كرة ثلج» الإقفال الكارثي لمؤسسات في مختلف القطاعات والتي تَمْضي بـ «جرْف» وظائف على متن عمليات تسريحٍ متواصلة (بدأت تطول القطاع المصرفي)… وصولاً إلى «بلد الـ 55 في المئة تحت خط الفقر» الذي قد لا يعود يتّسع للبنانيين الواقعين بين «ناريْ» التضخّم الذي تتصدّر «بلاد الأرز» سلّمه عالمياً (يحتل لبنان المرتبة الثانية)، والتآكل المستمرّ للأجور (لَمن بقي لديه عمل) نتيجة «انسحاقِ» الليرة أمام الدولار (يناهز سعره في السوق الموازية 12500 ليرة) بحيث خسرتْ في أقلّ من سنة ونصف السنة نحو 90 في المئة من قيمتها حتى بات الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة) الذي كان يساوي 450 دولاراً لا يتجاوز حالياَ 54 دولاراً في الشهر.
أرقام يدقّ المجتمعان العربي والدولي ناقوس الخطر حيالها وسط خشيةٍ من فصول أكثر «تَوَحُّشاً» للانهيارِ المالي في الأسابيع القليلة المقبلة مع توقعاتٍ باقتراب موعد رفْع الدعم عن سلعٍ استراتيجية، ولكنها لا تبدو، أقله حتى الآن، حاضرةً في اعتباراتِ الأطراف الوازنين الذين يديرون مأزقَ تشكيلِ الحكومةِ الجديدةِ المتمادي منذ أغسطس 2020 إما بمنطوق الانكشاف الكلي للوضع اللبناني على أزمات المنطقة ومَحاورها المتصارعة، وإما بحسابات «الحروب الصغيرة» السياسية وخلفياتها «المكشوفة» التي تحوّلت معها الحكومة العتيدة أحد «المعابر الرئيسية» للاستحقاق الرئاسي المقبل (بعد نحو 17 شهراً).
وبعدما انطبع الأسبوع الماضي بزيارة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل (صهر الرئيس ميشال عون) لموسكو في ظل تَرَقُّب لمفاعيلها التي لا توحي بإمكان توقُّع انفراجاتٍ وشيكة، فإن أيار ينطلق بعد عطلة الفصح لدى الطوائف المسيحية التي تتبع التقويم الشرقي بحَدَثيْن سياسييْن – ديبلوماسييْن تشكل باريس وواشنطن محورهما: استئناف مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل الثلاثاء برعاية أممية ووساطة أميركية، وزيارة وزير الخارجية الفرنسي جان – ايف لودريان لبيروت الاربعاء والخميس.
زيارة لودريان المفاجئة لبيروت، تكتسب أهمية قصوى لأنها ستأتي على وهج إعلانه بدء باريس تنفيذ إجراءات تقييد دخول مسؤولين لبنانيين متورطين بعرقلة تشكيل الحكومة الى الأراضي الفرنسية او بالفساد، مؤكداً «بدأنا مناقشات مع شركائنا الأوروبيين حول الأدوات المتاحة لنا لزيادة الضغط على اللاعبين في النظام السياسي الذين يعرقلون مخرجاً من الأزمة. وعلى الصعيد الوطني، بدأنا تنفيذ إجراءات تقييدية من حيث الوصول إلى الأراضي الفرنسية ضد الشخصيات المتورطة في الانسداد السياسي الحالي أو المتورطة في الفساد. ونحتفظ بالحق في اتخاذ إجراءات إضافية ضد كل من يعوق الخروج من الأزمة، وسنفعل ذلك بالتنسيق مع شركائنا الدوليين».
واعتُبر قرار فرنسا بالتفرّد بإطلاق مسار العقوباتِ، ولو بالحدّ الأدنى، على الصعيد الوطني ومن خارج المظلة الأوروبية التي تحتاج إلى مسار معقّد وطويل، وتَعَمُّدها عدم الكشف حتى الساعة عن أسماء المشمولين بأول مرحلة من استخدام «العصا»، مؤشراً إلى أن باريس التي تترنّح منذ أشهر مبادرتُها حول الحكومة اللبنانية لم تعد قادرة على الاكتفاء بتهديداتٍ كثّفت التلويح بها في الأسابيع الماضية، وبلسان وزير خارجيتها تحديداً حتى باتت تؤخذ بعدم جدية كبيرة، وفي الوقت نفسه ليست راغبة في أي خطوة زاجرة (مثل تحديد المعاقَبين بالأسماء حالياً) من شأنها أن «تحرق» مبادرتها وتُخْرجها «خالية الوفاض» بالكامل من المشهد اللبناني.
ورأت أوساط متقاطعة أن التسريبات بأن «لا لوائح جاهزة في الإليزيه بالأسماء بعد وقد يصطدم المسافرون إلى باريس بمنع سفر مفاجئ» هي بمثابة إيحاء بأن كل المنخرطين في الملف الحكومي باتوا، أو مرشحين للإدراج، على لائحة التقييد مع «وقف الإعلان بالاسم»، وهو ما سيتيح لوزير الخارجية الفرنسي هامشاً أكبر من الضغط في محاولةٍ لانتزاع تنازلاتٍ، رغم اعتبار مصادر متابعة أن من الصعوبة بمكان تَصَوُّر أن تحقق باريس اختراقاً سريعاً.
وترى هذه المصادر أن زيارة باسيل لموسكو حيث التقى وزير الخارجية سيرغي لافروف ومسؤولين آخَرين لم توحِ بأي إشاراتٍ إلى تبدُّل في مرتكزات موقف فريق عون المتصلّب بإزاء الرئيس المكلف سعد الحريري وشروطه للتأليف التي يعتبرها متناغمة مع المبادرة الفرنسية.
واستوقف هذه المصادر حرص موسكو على تظهير تمسُّكها بالحريري لرئاسة الحكومة وفق ما عبّر عنه إصدارُها بعد انتهاء محادثات باسيل بياناً أكد «أهمية تشكيل حكومة جديدة برئاسة رئيس الوزراء سعد الحريري في أقرب فرصة، تكون قادرة على إيجاد حلول فعالة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في المجتمع اللبناني»، وذلك بعدما كان رئيس «التيار الحر» أعلن ان «الحكومة لازمة ولكنّها غير كافية، اذا لم تتمتّع بالقرار والإرادة والقدرة على الإصلاح»، مؤكداً «اذا كان الرئيس الحريري يقبل بتعيين رئيس الجمهورية لوزراء مسلمين فلا مانع بأن يعين هو وزراء مسيحيين، ولبنان بلد المناصفة وقبول بعضنا للبعض الآخَر».
وسأل «ان يسعى الحريري الى النصف زائداً واحداً وتسمية كل الوزراء، وبمعزل عن موقفنا، هل هو أمر يقبل به الآخَرون؟ هل يقبل حزب الله والطاشناق وفرنجية وجنبلاط»؟ وأضاف: «لا أرى أن أحدا في لبنان يمكن أن يقبل بأن يسمي رئيس الحكومة كل الحكومة بل عليه أن يسمي حكومة تحصل على موافقة الرئيس (عون) وثقة مجلس النواب».