كتب أسامة القادري في “نداء الوطن”:
أدّت ارتدادات الأزمة الإقتصادية والغلاء في سعر صرف الدولار الى الزيادة في معدلات البطالة وانسداد الافق بوجود أي فرصة عمل، والى تفتيش المواطن عن وسيلة لسدّ الجوع، ما شجّع البعض على امتهان جمع الخردة في البقاع.
هكذا استغلّت عصابات السرقة هذا الوضع، لتنقضّ على منازل مغتربين غير مأهولة، ومنازل قيد الإنشاء، وعلى كابلات مؤسسة كهرباء لبنان، وبوابات حديدية لسرقتها وبيعها كخردة.
ومن الارتدادات ايضاً ارتفاع عدد “البوَر” والعاملين فيها بشكل كبير، والبوَر هي قطع ارض يتم فيها جمع الخردة من سيارات وآليات وقطع منزلية وزراعية وغيرها.. وفرز الحديد، والنحاس والالمنيوم والفونت والبلاستيك والكرتون، وكبس كل منها على حدة، ليتم تصديرها لاحقاً الى الدول الصناعية على اساس انها مواد اولية، فكان عدد البور في منطقة البقاع قبل الازمة لا يتجاوز الـ30 بورة، أما اليوم فشاعت هذه المهنة وارتفع عددها الى نحو 150 بورة في البقاعين الغربي والأوسط، بطريقة عشوائية غير مدروسة وبعيداً من أعين السلطات اللبنانية، وبالتالي ارتفع عدد العاملين فيها الى نحو 3 آلاف شخص، 60% منهم سوريون، ينقسمون بين عمال داخلها وبين سائقي “بيك آب” وفانات واشخاص يجمعون الخردة من حاويات النفايات ومن أمام المنازل.
هذا القطاع كثيراً ما تعرّض لمدّ وجزر، حتى تفاقمت المشاكل ولم تعد تقتصر فقط على نفايات القطع المنتهي العمل بها، ليصل الى القطع المستعملة يومياً وسرقتها لتتعدّى ذلك سرقة بوابات حديد المدافن، والتي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وحرّكت الاجهزة الامنية والعسكرية للوصول الى الفاعلين، وقد تبين انها بيعت الى احدى البور. هكذا تم تقاذف التهم بين الوسطاء الذين يجولون في القرى والبلدات وبين أصحاب البوَر، مما أضاع بوصلة تحديد المسؤوليات لعدم قدرة الاجهزة الأمنية على الإحصاء والتدقيق بهويات العاملين فيها، لتتّسع دائرة سرقة المنشآت العامة من كابلات الكهرباء النحاسية في العديد من المناطق اللبنانية، مستغلين انقطاع التيار والتقنين القاسي، فتتم سرقة مئات الامتار منها كنحاس خالص تقدر اثمانه بملايين الدولارات.
كما وانتشرت اخيراً في البقاع على طول الطرقات الدولية والرئيسة والفرعية في منطقتي الاوسط والغربي سرقة اغطية حديدية مخصصة لأقنية تصريف مياه الشتاء، مما تسبب بحوادث سقوط اشخاص وسيارات وبأضرار مادية جسيمة. كما أدى الى إنسداد الاقنية جرّاء تراكم الاتربة والصخور فيها نتيجة انكشافها. كذلك لم تسلم ورش البناء من عمليات سرقة الحديد المخصص للبناء. وبالعودة الى مشكلة بور الخردة، فإن أصحابها شجّعوا اشخاصاً من خلال شرائهم الحديد والنحاس والالمنيوم منهم من دون الاستيضاح عن المصدر. ففي منطقة دير زنون بين بلدتي الروضة في البقاع الغربي وبرالياس في البقاع الأوسط، يتجمّع العدد الاكبر من هذه البوَر، اضافة الى منطقة تعنايل والمرج وبرالياس وقب الياس، وعلي النهري ورياق، يتنافس فيها العشرات على شراء الحديد، ليتم بيعها الى ثلاثة تجار، يعمدون الى تصديرها عبر المرفأ الى أوروبا، هم من يحدّدون السعر بناء على نوعية الكبس وحجم ونظافة الفرز، وكلما كان الكبس خاضعاً لقوة ضغط أكبر كلما كان السعر افضل.
يرمي أبو الفضل صاحب إحدى هذه البوَر في حديثه لـ”نداء الوطن” مشكلة فوضى هذه “المصلحة على الدولة لعدم تنظيمها بإجازات تراخيص تحدّد العاملين فيها، وتحديد سرقة الحديد والنحاس من المنشآت الخاصة والعامة على الوضع المعيشي المتردّي، ويقول: “لا يمكن لصاحب اي بورة خردة ان يعلم ان معادن الحديد والألمنيوم التي يبيعونه إياها مسروقة أم لا، أما النحاس فيمكن معرفته خاصة اذا كانت الكابلات نحاسية لم تذوّب”، ليتابع: “للاسف هناك اشخاص يسرقون كابلات خطوط التوتر والشبكة الرئيسية ويذوبونها ومن ثم يبيعوننا إياها، لأن جميع أصحاب البوَر يرفضون شراءها لأنها مسروقة”، معتبراً “هذه المصلحة بأنها باب رزق للمئات من العائلات اللبنانية والسورية، فأكثر من ألف “بيك آب” وفان تعمل في جمع الخردة وبيعها للبوَر”، ويقول: “بسبب سوء الوضع الحالي والوضع الاقتصادي وارتفاع سعر الصرف، يبيع مواطنون سياراتهم “للفرط” لعدم قدرتهم على اصلاحها، فيتم تسعير السيارة الصغيرة تقريباً بـ3 ملايين ليرة، والوسط بـ4 ملايين ونصف، والكبيرة بين 6 و7 ملايين، وكيلو الحديد بـ3500 ليرة، والالمنيوم بـ13 ألفاً والنحاس بين الـ60 والـ70 ألفاً، والبلاستيك من3500 حتى 7 آلاف ليرة وذلك حسب نوعيته وسماكته.
هذه اصبحت مهنة العديد من المواطنين، هناك جنود في الجيش والدرك وموظفون يجمعون الحديد والالمنيوم واشرطة النحاس، من خردة منزلية بدلاً من رميها لتساعدهم في المصاريف اليومية، حتى ان النازحين يبيعون الخزانات التي تقدّمها لهم الأمم للإستعمال كجورة صحية”.
مصدر أمني أكد لـ”نداء الوطن” أن “بوَر جمع الخردة ليست عملاً مستجدّاً، انما عمل قديم كان يعتمده قلة من المواطنين، أمام ارتفاع سعر المعادن عالمياً وارتفاع الطلب عليها، اتسعت بقعة العاملين فيها وأصبحت مهنة رائجة، ولم تعد مقتصرة على اشخاص من فئة طبقية وإجتماعية معينة، وهذا ما يضعها أمام ضرورة تنظيمها وتحديد ما هو ممنوع أو مسموح بيعه وشراؤه، وكيف يمكن فصل المسروق عن غير المسروق”، وأردف: “ان هذه المهنة كانت قبل اقفال الحدود بسبب تفشي “كورونا”، تشهد تهريب خردة وحديد وبلاستيك من سوريا الى لبنان، ومنها ما كان يأتي من العراق بناء على الطلب الدولي عليها، وأحياناً كثيرة كانت تصدّر الى سوريا والعراق حسب الطلب الصناعي المحلي عليها”. وتابع المصدر: “هذه المهنة لم تخضع يومياً للرقابة الفعلية والاهتمام فيها مما جعل عمليات الاستيراد غير خاضعة للتفتيش والمراقبة، وهذا ما تسبّب بضحايا بشرية نتيجة وجود قذائف وطلقات مصنّفة غير صالحة للاستعمال، ونتيجة التذويب والضغط ادّت الى انفجارات قتلت اشخاصاً، لأنها لم تفرغ”.
تحمّل القوى الامنية المسؤولية لأصحاب البوَر وتعتبرهم شركاء اللصوص “لانهم يشترون ابواباً وسيارات وقطعاً بأقل من سعرها بعشرة اضعاف، يعملون على مبدأ “السارق من السارق كالوارث من ابيه”، هذا ما يدل على انهم يعلمون انها مسروقة وبذلك يتحملون المسؤولية. لا يعقل ان يشتري بوابة خردة بمليون ليرة فيما ثمنها 10 ملايين ولا تكون مسروقة”.
وكشف المصدر عن العديد من عمليات سرقة ابواب الحديد في القرى والبلدات البقاعية جميعها تم بيعها كخردة، وما اثار الوضع اكثر عندما تمّت سرقة ابواب المدافن في رياق، الا ان اكثر البلدات التي شهدت سرقة من هذا النوع هي ابواب المزارع والمنازل في سهل قب الياس، وآخرها سرقة بوابات حديدية ضخمة ودفاعات نوافذ لمنزل قيد الانشاء، وسرقة كل ما هو حديد في البيوت قيد الانشاء، مما أثار حالة من البلبلة والاستياء بين الاهالي وتفاقم الوضع الامني.
فمنذ اقل من اسبوع، دخل مجهولون في سهل قبّ الياس، شقة قيد الإنشاء عائدة للمواطن (ح. غ.، مواليد عام 1968، لبناني)، وسرقوا من داخلها 6 أبواب و7 دفاعات نوافذ حديدية، وقُدّرت قيمة المسروقات بـمبلغ 3000 دولار أميركي. استطاعت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي كشف الفاعلين وهويتهم، وتبين انهم يعملون في جمع الخردة، كما تم توقيف عدد من اصحاب هذه البوَر بعدما ضبطت المسروقات فيها. سعدنايل وقب الياس
رئيس بلدية سعدنايل حسين الشوباصي يؤكد أنه “نتيجة الازمة الاقتصادية بدأت ظاهرة نبش حاويات النفايات بهدف جمع البلاستيك والكرتون والحديد وتنك المشروبات الغازية والزجاج وبيعها، مما اثار حفيظة معمل فرز النفايات في زحلة لانه لا يستفيد بحال كانت النفايات مفرزة قبل النقل اليه”، واعتبر أن “هذه الظاهرة هي بسبب ارتفاع معدل الفقر والعوز عند المواطنين، ولا يمكننا منعهم لانهم يعتبرونها مصدر عيشهم”.
من جهته، رئيس بلدية قب الياس جهاد المعلم، قال: “لا يمرّ يوم الا ويبلّغ عن عملية سرقة لمنشآت زراعية بوابات وآليات في سهل قب الياس، غالبيتها من اجل الحديد والنحاس، وليس في قب الياس وحدها انما في كافة المناطق البقاعية”، وأردف: “من يشتري المسروقات شريك للحرامي، مثله مثل الذي يسرق كابلات الكهرباء ويذوبها”، وتمنى على الاجهزة الامنية “أن تنسق مع بعضها البعض عبر مجلس الأمن الفرعي برئاسة المحافظ، وان تكون العمليات موحّدة”، ورفض اعتبار الذين يسرقون الحديد والنحاس وغيره “جوعانين انما لصوص يمتهنون كار السرقة، وبالتالي يجب التشدّد ومعاقبتهم لوضع حدّ لمثل هذه الافعال، لأننا اصبحنا أمام ضرورة لأن يصبح كل مواطن خفيراً ويبلّغ عن اي حادثة او مخالفة لمحاسبته”. وختم: “أصبحنا امام ظاهرة خطيرة يجب وضع حدّ لها، أما أن يصل بهم الامر لسرقة المدفن فهذا دليل على تفاقم الفلتان الامني”.