في غياب التدقيق الجنائي، على اللبنانيين أن يتقفّوا أثر أموالهم المودعة في المصارف في صفحات الصحف العالميّة، التي بدأت تسلّط الضوء على أزمة المصارف اللبنانيّة، والأطراف المسؤولة عنها. مجلة “فورين بوليسي” وصحيفة “لوموند” الفرنسيّة نشرتا تحقيقين يتناول كلّمنهما جوانب من أزمة مصارف لبنان، مع نشر معلومات لافتة في “فورين بوليسي” عن عمليات تهريب الأموال التي حدثت خلال الأزمة بعد تشرين الأوّل 2019.
أكّد سعد الأزهري، رئيس مجلس إدارة بنك لبنان والمهجر، في مقابلة مع “بلومبرغ” منذ نحو أسبوعين، تلقّي مصرفه تهديدات من سياسيّين لبنانيّين، إذا لم يوافق على محاولاتهم تهريب أموالهم بعد الأزمة، على حساب باقي المودعين، مؤكّداً أنّه رفض الانصياع لهذه الضغوط أو قيامه بالتحويلات.
لكنّ الجديد اليوم هو ما نقلته مجلة “فورين بوليسي” عن مصرفيّ كبير، رفض الإفصاح عن اسمه، أكّد استفادة النخبة السياسيّة والماليّة في البلاد من نفوذها وشبكة علاقاتها لتهريب أموالها إلى الخارج، على الرغم من إجراءات الـ”كابيتال كونترول” غير المقوننة التي فرضتها المصارف على سائر المودعين.
ويمثّل ما نقلته المجلّة عن “المصرفيّ الكبير”، من دون ذكر اسمه، تأكيداً للمرّة الأولى من المصارف نفسها يثبت وجود عمليّات تهريب كبيرة لسيولة النظام المصرفي من الدولارات “الفريش” إلى خارج لبنان، استفادت منها في ذروة الأزمة حلقة ضيّقة جدّاً من أصحاب النفوذ المالي والسياسي.
وأكّد المصرفيّ الكبير للصحيفة أنّ عمليّة تهريب الأموال بهذه الطريقة لم تكن غير قانونيّة، بسبب عدم وجود قانون خاصّ ينظّم عمليّة الـ”كابيتال كونترول”، لكنّه اعترف أنّ هذه العمليات “خاطئة” و”غير أخلاقيّة”. كما لفت المصرفي إلى أنّ هذا النوع من العمليّات جرى في معظم المصارف اللبنانيّة، ملقياً اللوم على الضغوط القاسية التي تعرّضت لها المصارف للقيام بهذه التحويلات. ونقلت الصحيفة عن تقارير ماليّة تقديرات تفيد أنّ حجم الأموال التي هُرِّبت بهذه الطريقة تقارب 6 مليارات دولار، مؤكّدة أنّ مصارف سويسرا وفرنسا مثّلت الوجهة الأبرز لهذه التحويلات.
يمثّل ما نقلته المجلّة عن “المصرفيّ الكبير”، من دون ذكر اسمه، تأكيداً للمرّة الأولى من المصارف نفسها يثبت وجود عمليّات تهريب كبيرة لسيولة النظام المصرفي من الدولارات “الفريش” إلى خارج لبنان، استفادت منها في ذروة الأزمة حلقة ضيّقة جدّاً من أصحاب النفوذ المالي والسياسي
قراءة سريعة لأرقام مصرف لبنان خلال السنة الماضية تؤكّد الرقم الذي ذكرته “فورين بوليسي” والمرتبط بالأموال التي هُرِّبت من النظام المصرفي اللبناني، ولم تكن جزءاً من الدعم لاستيراد السلع الأساسيّة أو تمويل عقود الدولة. فخلال العام الماضي تراجعت احتياطات مصرف لبنان بنحو 14.2 مليار دولار، منها نحو 6.4 مليارات دولار خُصِّصت لتمويل استيراد السلع المدعومة من مصرف لبنان، بينما خُصّص ما يقارب 1.1 مليار دولار من السيولة لتمويل عقود الدولة بالعملة الصعبة. ويصبح واضحاً أنّ نحو 6.7 مليارات دولار من سيولة المصارف المودعة في مصرف لبنان هي التحويلات التي يتحدّث عنها المصرفيّ لمجلة “فورين بوليسي”، وهي الرقم الذي ذكرته بالنسبة إلى هذه التحويلات.
كل هذه الوقائع استخدمتها الصحيفة لتصل إلى خلاصة واحدة: لقد وُزّعت خسائر الانهيار توزيعاً “غير متناسب” بين اللبنانيين، فيما تحمّل الكلفة الكبرى أصحابُ الودائع الذين لا يملكون النفوذ أو العلاقات السياسيّة، بينما تمكّن أصحاب النفوذ من إنقاذ أموالهم بفضل هذا النوع من العلاقات، وظلّت ودائع سائر اللبنانيين من صغار المودعين حبيسة النظام المصرفي. فكانت خسارتهم كبيرة نتيجة الفارق الكبير بين قيمة الدولار الفعليّة في السوق السوداء وسعر الصرف المعتمد حاليّاً لسحب الودائع المدولرة بالليرة وفقاً للتعميم 151. هذا إذا تمكّنوا من سحب الفتات منها على سعر 3900 ليرة للدولار.
وتشدّد المجلّة على أنّ عمليّة سحب الودائع المدولرة بالليرة وفقاً لآليات هذا التعميم، كانت مجحفة بحق المودعين، لكنّها مكّنت المصارف من تقليص قيمة خسائرها عبر التخلّص من جزء من التزاماتها للمودعين بهذه الطريقة.
ومع تعداد الأثمان التي دفعها اللبنانيون نتيجة انهيار القطاع المالي، يستغرب المقال بوضوح ظاهرة تعدّد أسعار الصرف في لبنان والفوضى التي وقعت فيها، فتنوّعت بين سعر صرف المنصّة وسعر الصرف الرسمي القديم وسعر صرف السوق السوداء، وأخيراً “سعر الصرف الإنساني” الذي يقترحه مصرف لبنان لدفع قيمة المساعدات الخارجيّة بالليرة. أمّا النتيجة فهي معاناة يوميّة مع “البؤس والسخافة”، وخصوصاً مع تهاوي سعر صرف الليرة الفعلي في السوق السوداء، بعدما خسرت %80 إلى %90 من قيمتها. ويصف المقال بعض الظواهر التي عرفتها السوق منذ دخول لبنان أزمته، كظاهرة صرّافي الدراجات الناريّة المتنقّلين بين الشوارع، والسوق السوداء التي تحدّد سعرها “مئات المجموعات على الواتساب”.
تشدّد المجلّة على أنّ عمليّة سحب الودائع المدولرة بالليرة وفقاً لآليات هذا التعميم، كانت مجحفة بحق المودعين، لكنّها مكّنت المصارف من تقليص قيمة خسائرها عبر التخلّص من جزء من التزاماتها للمودعين بهذه الطريقة
“لوموند”: القضاة حموا المصارف
شبّهت مجلة “لوموند” الفرنسيّة ما قام به النظام المصرفي اللبناني بمخطط “بونزي”، الذي أغنى المساهمين والمصرفيّين طوال السنوات الماضية، قبل أن ينهار المخطّط بأسره بعد تضخّم الدين العام غير المنضبط. وتذهب الصحيفة إلى إعطاء أمثلة عن ضحايا انهيار مخطط “بونزي” الذين لجأوا إلى المحاكم لمقاضاة المصارف، بدءاً من الطالبة التي فشلت في دفع أقساطها الجامعيّة في أميركا نتيجة عدم قدرتها على سحب أموالها من حسابها، إلى شخصيات معروفة كرجل الأعمال الأردني طلال أبو غزالة الذي تمكّن من الحصول على حكم قضائي لصالحه في دعواه المقامة بوجه “بنك سوسيتيه جنرال”، قبل أن يطعن المصرف بهذا الحكم.
وفي الخلاصة تذكّر الصحيفة بوقوف معظم القضاة إلى جانب المصارف في غالبيّة الدعاوى المرفوعة، إذ تتعثّر إجراءات المودعين أو يُطعَن بالقرارات لاحقاً عند الاستئناف بعد الفوز بأيّ قضيّة. أمّا السبب فهو ببساطة خضوع القضاة للتسلسل الهرمي القضائي، واستتباع السلطة القضائيّة للسلطة السياسيّة. ولذلك يشير المقال إلى حالات عديدة لجأ خلالها المودعون إلى محاكم أجنبيّة لتحصيل حقوقهم، بدل اللجوء إلى المحاكم اللبنانيّة، ومنها حالة المحامي وليام بوردون الذي تمكّن من الحصول على أمر بمصادرة أصول الفرع الفرنسي لـ”بنك عودة”. ويشير المقال إلى دعاوى أخرى رفعها مودعون ضدّ مصارف لبنانيّة في محاكم فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
مع بدء الأزمة، درج مصطلح المصارف “الزومبي” لوصف حالة المصارف اللبنانيّة، في استعادة لمصطلح درج في بداية التسعينيات للإشارة إلى بعض المؤسسات الماليّة التي تمتلىء ميزانيّاتها بالخسائر غير المعترف بها، لكنّها تستمر بالعمل بفضل دعم رسميّ. وهي بذلك مصارف نصف ميّتة، بسبب عدم قدرتها على أداء أيّ دور اقتصادي منتج، لكنّها نصف حيّة أيضاً بفضل الدعم الذي تتلقّاه من الدولة. مصارف لبنان ذهبت إلى العالميّة اليوم، بعدما شهد لبنان إحدى أضخم حالات التعثّر المصرفي التي عرفها التاريخ الحديث، وإحدى أضخم حالات الأنظمة المصرفيّة “الزومبي” التي تستمرّ بالعمل من دون أن تعالج خسائرها أو تتعامل مع أزمة مودعيها.