كتب زكـي طـه
وأخيراً وقعنا في المحظور، ودخل اللبنانيون الجحيم الذي بشرهم به صاحب العهد. هو لم يكن يتنبأ، بقدر ما كان وشركاؤه في الحكم يعلمون علم اليقين إلى أين يقودون البلاد. والجحيم لم يكن قدَرَاً منزلاً، بل كان احتمالاً راجحاً وفق كل التقديرات محلياً وخارجياً. وقد أصبح واقعاً قائماً بفعل إصرار قوى السلطة ومرجعياتها في الحكم، على تجاهل مخاوف اللبنانيين وتحذيراتهم ومطالبهم المتكررة، ومعهم قادة ومسؤولي الأمم المتحدة والدول الصديقة والشقيقة والناطقين بإسمهم، الذين كلّت ألسنتهم وهم يؤكدون استعدادهم للدعم والمساعدة لإنقاذ البلد من الانهيار، مشترطين على أهل السلطة إعادة النظر في سياساتهم وتنفيذ ما وعدوا به مراراً وتكراراً من إصلاحات.
لسنا بصدد تحميل العهد الحالي منفرداً المسؤولية عن الانهيار ودفع البلد نحو الجحيم، رغم أنه نجح في أن يكون العهد الأكثر سوءاً في تاريخ الكيان منذ التأسيس. علماً أن العهد والحزب الذي أتى به وعطلّ الاستحقاقات سنوات لفرضه رئيساً، ومعهم من وافق طوعاً أو رضخ قسراً في سبيل العودة للسلطة، هم جميعاً من تسبب بالانهيار، ومن شرَّع البلد ساحة مرتهنة للمصالح والصراعات الاقليمية والدولية، وجعله محاصراً بالتهديدات والعقوبات. ولذلك بات مرشحاً لأن يكون العهد الأخير نظراً للمخاطر التي تهدد مصيره كياناً وطنياً ومجتمعاً أهلياً، وتضعه أمام خطر الزوال وفق كل التقديرات الدولية.
بالإضافة إلى ذلك لسنا بوارد تكرار تحميل أطراف السلطة ما آلت إليه أوضاع البلاد، ولا استحضار المسارات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من أزمات وكوارث. كما وأننا لن نستعيد قراءة السياسات الخاطئة والرهانات القاتلة والممارسات اللاوطنية والاجرامية لقوى السلطة جميعاً، حيث لم يعد ينفع التذكير بمآثر هذا العهد، أو ذاك الطرف في دفع اللبنانيين نحو المجهول المعلوم، ولن ندخل في توزيع أقساط المسؤولية التي يتحملها الجميع دون استثناء، وإن بنسسب متفاوتة ولكنها متكافلة ومتضامنة ومشتركة.
الكل يعلم أن الإنهيار والوصول إلى الجحيم كان له سياق وأسباب ومسؤولين استهانوا بالبلد، واستهتروا بمصالحه الوطنية، واستباحوا موارده ومؤسساته. ما يعني أن ما نحن فيه لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان متوقعاً. وذلك بالنظر لطبيعة نظام المحاصصة الطائفية، وصراعات أطراف السلطة واتساع قاعدة المنتفعين من سياسات وأداء الطبقة السياسية والمراهنين عليها أولاً، وثانياً نتيجة انعدام الحياة السياسية الفعلية في البلد منذ الطائف. والأخير تتحمل المسؤولية عنه قوى المعارضة المستقلة التي لم تتمكن من تأسيس حركة اعتراض قادرة على مواجهة قوى السلطة ومحاصرتها، والضغط عليها لإجبارها على إعادة النظر بسياساتها وممارساتها، والحد من فسادها وارتهانها للخارج من ناحية، وعلى حماية حقوق الفئات الاجتماعية المتضررة وانتزاع مطالبها المشروعة، وتشكيل كتلة مجتمعية تمكنها من خوض معركة التغيير عبر مسارات ديمقراطية ووطنية في آن.
ما يؤكد ذلك، هو نجاح القوى الطائفية في تجديد بُناها الطائفية وتنفيذ سياساتها لضمان مصالحها الفئوية بصرف النظرعما انتهت إليه اوضاع البلاد الراهنة بكل ما يحتشد فيها من كوارث ومخاطر تسببت بها العهود المتعاقبة وقواها الحاكمة والمتحكمة باللبنانيين دون رادع. إذ لا يكفي أن ترفع بعض المجموعات والقوى الحزبية راية المعارضة، أو ادِّعاء الاعتراض على ما هو قائم. لقد ثبت بالملوس أنه غير ذي جدوى أن ترطن تلك القوى برفع الشعارات العامة حول تغيير النظام و.. أو تجميعها وطرحها برنامجاً للتغيير وتكرار تشكيل الجبهات التي تنتهي قبل أن تولد كما جرى ولا يزال.
وعليه، لا بد من التذكير بأن فعالية أية معارضة، لا تُستمد من قوة شعاراتها وبرامجها، إنما من انتساب قواها إلى أزمات البلد حيث هي فعلاً، وبقدرتها على استنهاض الفئات المتضررة دفاعاً عن حقوقها ومن أجل مطالبها، وحشد الكتل الاجتماعية صاحبة المصلحة في إنقاذ البلد ودق أبواب التغيير، لأن هذه القوى هي من يمتلك قدرة الضغط على أطراف السلطة لتعديل سياساتها وأدائها، كما أنها ومن خلال تحركاتها هي من يعطي لشعارات التغيير معنى، ويجعل البرامج قابلة للتحقق وذات جدوى على أرض الواقع.
لا يختلف الأمر مع الشعارت والطروحات الناتجة عن القراءات الخاطئة أو الجزئية للأزمات وسبل مواجهتها، لإنها لا تسهم أبداً في تفعيل وتطوير حركة الاعتراض بقدر ما أنها تصب الماء في طاحونة قوى السلطة، التي تتقاذف المسؤوليات عن الأزمات، والتي تتشارك في انتاجها والاستثمار فيها. عدا أنها تمكنها من استغلالها للتضليل والتعمية وتوظيفها في صراعاتها. ولنا في هذا السياق الكثير من الأمثلة الساطعة، التي سهلت لأطراف السلطة اختراق الانتفاضة إلى حد استخدامها والنطق باسمها، بدءاً من تحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الانهيار والانفجار، سواء تعلق الأمر بصراعات المحاصصة وحصص النهب والفساد، أو الاستقواء بالسلاح وبالصلاحيات والقدرة على التعطيل، أو بحصر عوامل الانهيار بسياسات المصرف المركزي وجمعية المصارف، واعفاء الطبقة السياسية من مسؤولياتها عن أداء الحاكم الذي يدير مصرف السلطة، أو بالارتهان لايران ودول الخليج واميركا وغيرها وما يتفرع عنه من تهم الخيانة والعمالة.
كثيرة هي الشعارات المبدئية المطروحة غير الواقعية راهناً، بدءاً من المطالبة بتغيير النظام ومكافحة الفساد واستعادة الاموال المنهوبة واستقلالية القضاء والدعوة إلى انتخابات مبكرة و.. وصولاً إلى شعار حكومة انتقالية. والإشكالية في هذه الشعارات ما يرافقها من تبسيط وأوهام، أن من يطالب بها لا يمتلك القدرة على إجبار أهل الحكم، واطراف السلطة ومؤسساتها على الخضوع والاستجابة لها وتلبيتها، مما يصحّ معه السؤال لماذا ستوافق السلطة طوعاً واختياراً على التخلي عن مصادر قوتها وسلطات نظامها.
مما لا شك فيه أن لبنان أصبح متروكاً للمجهول وقد دخل مرحلة خطر زوال الكيان، وأن الحكم ومرجعياته الدستورية باتوا في حالة موت سريري، وعجز عن تأدية الحد الأدنى من وظائف السلطة، وسط شلل شبه تام لأجهزة الدولة واداراتها. فيما الانهيار الاقتصادي والمالي محكومان لمسار تصاعدي لا حدود مرئية له، أما حالة الفوضى الأهلية الشاملة فهي إلى اتساع في شتى المناطق وستطال مختلف شؤون الحياة ومتطلباتها، وقوى السلطة جاهزة لتقاسم إدارتها وفق صيغة قوى الأمر الواقع الميليشياوي، وتشريع البلد بالتالي على كل احتمالات الصراع والفوضى والاضطراب الأمني إلى حد الاقتتال.
وبعيداً عن انتظار الحلول من الخارج، ورغم أن الانهيار والمجاعة لا يصنعان ثورة ولا ينتجان تغييراً، فإن الإنقاذ يبقى أمراً متاحاً وتحدياً قائماً. وشرطه الأساسي والوحيد هو أن تبادر الفئات المتضررة، والكتل الاجتماعية صاحبة المصلحة في أن يبقى لها وطن، إلى الإمساك بمصيرها وحماية حقوقها وتفعيل مطالبها، وتشكيل قوة مجتمعية متحركة وضاغطة لإنتزاع حقوقها وقضاياها، وهنا تكمن مسؤولية دُعاة التغيير بصرف النظر عن تشكيلاتهم وهوياتهم الفكرية والسياسية الضيقة، عن إعادة النظر بشعاراتهم وبرامجهم بما يجعلهم أكثر واقعية، واتصالاً بأولويات المتضررين ويؤهلهم لإستعادة ثقتهم ومشاركتهم في التحركات لمحاصرة قوى السلطة وتفكيك مزارعها ودويلاتها، وتجديد الأمل بإنقاذ البلد وإعادة بنائه وتوحيده.