من «الطبيعي» في لبنان أن يستمر سعر صرف الليرة في الانهيار، طالما أنّ كلّ المؤشرات السياسية والاقتصادية والنقدية والمالية إلى مزيد من الانحدار، وبغياب خطّة واضحة تُعيد تشييد الهيكل. ولكنّ «المُستغرب» هو أن يرتفع سعر صرف الدولار من 8900 ليرة للدولار الواحد إلى 9500 ليرة في يوم واحد، ومن دون أن يكون قد أُضيف أيّ أمر «مُفاجئ» إلى الأسباب الموجودة أصلاً. تُرمى المسؤولية دائماً على ما يُسمّى بـ«السوق السوداء»، التي ينفض الجميع أيديهم منها، كما لو أنّ مُحرّكها فعلاً «يدٌ خفية»، وليس الصرافين والتجّار والمُحتكرين والمصرفيين وكلّ من استخدم الورقة الخضراء للإثراء على حساب بقية السكان.
ما الذي استجد؟ «أقفل الصرّافون حنفياتهم»، يقول مسؤولون في «القطاع». القصّة تعود إلى الأيام القليلة الماضية، حين أوصلت التحقيقات مع «عصابة نصب أموال» إلى الاشتباه بدور لبعض الصرّافين في القضية، فأوقف المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم عدداً منهم، وصادر مبالغ مالية وختم محال صيرفة بالشمع الأحمر. تفاقمت الأحداث في الـ72 ساعة الماضية، وأوقف أمس أحد الصرّافين، «ما أدّى إلى إغلاق البقية لهواتفهم والامتناع عن بيع الدولار حتى ولو بـ9500 ليرة». قليلون «خافوا» من أن يؤدّي عَرض الدولارات إلى إيقافهم، ولكن في الأساس هي لُعبة ابتزاز يُمارسها الصرّافون على قاعدة «تُريدون إيقافنا عن العمل؟ إذن لن نُلبّي الطلب، وليرتفع سعر صرف الدولار». علماً أنّ السيولة المتوفرة من العملة الصعبة «تفوق حجم السوق اللبناني»، بحسب مسؤول مصرفي. الكلام يعني بشكل خاص النقد في التداول بين الصرّافين و«أصحاب الشنطة»، الذي يدخل لبنان من خارج النظام المصرفي وشركات تحويل الأموال. ويُضاف إليه الدولارات «الخاصة»، المدّخرة في المنازل والتي تختلف التقديرات بشأن قيمتها. ليست المُشكلة إذاً في «الكمية»، بل في أنّ «العصيان» غير المُعلن للصرّافين أمس أدّى إلى أن «يفوق الطلب على الدولار العَرض، خاصة أنّه خلال الأيام الماضية حجزت مصارف وتُجّار كميات كبيرة من الدولارات لتشتريها، وفجأة وجدت نفسها مقطوعة».
خطوة الصرّافين هي التي فجّرت فتيل أمس، من دون أن تأتي من خارج السياق، فالأسباب الموضوعية جاهزة. خطاب رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري في 14 شباط، وحفلة الردود بينه وبين فريق رئاسة الجمهورية، أعطت مؤشّراً سلبياً لـ«السوق» بأنّ الحكومة لن تتشكّل في المدى القريب، ما يعني عدم إيجاد حلول لكلّ المشكلات المطروحة على الطاولة، وأهمّها دعم استيراد المواد الأساسية وإعادة ضخّ العملة الصعبة في البلد. هذا في السبب السياسي المُباشر الذي لا يُمكن القفز فوقه. أما على صعيد آخر، فالارتفاع في أسعار النفط عالمياً، تُرجم في الغلاء الأسبوعي لأسعار البنزين والمازوت. وبحسب الاتفاق مع مصرف لبنان، يجب على المستوردين تأمين 15% من قيمة المحروقات بالدولار على أن يُغطّي «المركزي» المبلغ الباقي. مثلاً، إذا كان مستورد محروقات يشتري من الصرّافين 100 ألف دولار لتأمين الـ15%، فرض عليه غلاء أسعار المحروقات عالمياً، زيادة كمية الدولارات التي يشتريها من السوق، ما «يعني زيادة السعر ربطاً بزيادة الطلب». 

مصارف تقوم بعمليات مُضاربة في «السوق السوداء» لتكوين حسابات بالدولار

إلى هذين السببين، يُضاف سبب أساسي يتعلّق بعمليات المُضاربة التي تقوم بها المصارف التجارية في «السوق السوداء». أصحاب المصارف وكبار المُساهمين بها اختاروا حماية أرباحهم الخاصة – التي جنوها من عمل المصارف في الاقتصاد المحلّي واستفادتها من المال العام كما المال الخاص – وعوض استخدامها لـ«إنقاذ» مصارفهم، قرّروا شراء الدولارات من الصرّافين، غير آبهين بأنّ ذلك سيؤدّي إلى المزيد من الانهيار في سعر صرف الليرة. راهنت المصارف خلال الأسابيع الماضية على أن الحاكم رياض سلامة سيّمدّد مُهلة إعادة تكوين حساباتها لدى مصارف المراسلة في الخارج، وضخّ الدولارات فيها بما لا يقلّ عن 3% من مجموع العملات الأجنبية المودعة في المصارف اللبنانية. المُهلة تنتهي بعد تسعة أيام (في 28 شباط)، و«المركزي» لم يُصدر بعد أي إشارة، أكانت سلبية أم إيجابية، بشأن القرار الذي سيتخذه، رغم الضغوط التي تمارسها البنوك لأجل تمديد المهلة. أمام حالة «عدم اليقين»، لجأت مصارف إلى «شفط الدولارات من السوق وحجز شراء مئات آلاف الدولارات، هذا فضلاً عن قبولها بيع شيكات بأقل من 30% من قيمتها»، يقول صرّافون. ولن تتوقّف المصارف عن الاستحواذ على كميات كبيرة من الدولارات قبل تأمين الـ3% المطلوبة، إلا إذا نجحت ضغوطها على مصرف لبنان، الذي يُفترض أن يحسم الجدل في اجتماع المجلس المركزي الأسبوع المقبل.
حتى ذلك الحين، وإلى أن تكون شركات الصيرفة قد فتحت أبوابها، لا تُظهر السلطة النقدية (مصرف لبنان)، أي نية للقيام بأي خطوة من شأنها خفض وتيرة انهيار سعر الصرف. انهيار بدأ في صيف 2019، وسيزداد حدّة كلما تفاقمت الأزمة التي يمكن أن ينقلها إلى مستويات عالية قرار بإلغاء دعم استيراد السلع الأساسية.