“بين مدنية الدولة وعلمانية المجتمع” تحت هذا العنوان كتب الدكتور مارك أبو عبدالله.
كثُر الحديث، ومنذ فترة ليست ببعيدة، عن ضرورة إقامة الدولة المدنية والذهاب بلبنان باتجاه العلمانية. كما وتحمل اليوم الكثير من مجموعات المجتمع المدني، خاصةً تلك التي نشأت قٌبيل وخلال وبعد ثورة ١٧ تشرين، كما وبعض الأحزاب السياسية برامج تتعلق بالدولة المدنية والعلمانية. إلا ان هناك مجموعة من الأسئلة التي تُطرح: لماذا بات هذا الموضوع اليوم في اعلى سُلم أولويات هذه المجموعات وهذه الأحزاب؟ هل ان الامر متعلق فقط بالتطور الاجتماعي الذي بلغه المجتمع اللبناني؟ والسؤال المحوري الاخير هو: مهما تكن تلك الدوافع هل هناك من إمكانية لتحقيق هذين الهدفين؟
بداية لا بدّ من الإشارة الى ان لبنان، ووفق المادة التاسعة من الدستور التي لا تُحدد لا من قريب ولا من بعيد دينًا معينًا للدولة اللبنانية، هو دولة مدنية. بل اكثر من ذلك، يكاد لبنان يكون الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لا تعتمد في تشريعاتها على أي نصّ ديني، كما لا يحدد الدستور اللبناني الانتماء المذهبي لأي موظف حكومي من اصغر موظف وصولاً الى رئيس الجمهورية. كما ان الدولة اللبنانية ليست ابدًا دولة عسكرية، فنادرة جدًا واستثنائية جدًا الفترات التي استلم فيها الجيش اللبناني السلطة بشكل كامل. ويبدو، وللأسف، ان الاستمرار في استخدام تعبير الدولة المدنية من قبل بعض التيارات والأحزاب السياسية ومجموعات المجتمع المدني ينمّ عن عدم إحاطة كافية بالموضوع، والذي يؤدي بمعرفة هؤلاء او من غير معرفتهم الى نقل النقاش الى مكان اخر.
الأّ انه وبالرغم من وضوح الدستور اللبناني في هذه النقطة حول موضوع مدنية الدولة اللبنانية، إلا ان هذا الدستور ذاته ينصّ وفي المادة ٩٥ منه على ان تكون الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. واستند الفرنسيون، واضعو الدستور، في ذلك على المادة الأولى من صك الانتداب التي طالبت الدول المُنتَدِبة بوضع قانون أساسي يأخذ بعين الاعتبار حقوق جميع القاطنين في هذه الأقاليم ومصالحهم وأمانيهم. كما كان من بين العوامل التي ساعدت الفرنسيين في تضمين الدستور اللبناني المادة ٩٥، ان مضمون هذه الأخيرة عكس الى حد كبير طبيعة النظام السياسي العام للبنان والذي كان قد بدأ يتشكّل ومنذ نظام القائمقاميتين ومرورًا بنظام المتصرفية واللذان نصّا صراحة على وجوب تمثّيل جميع المكونات المذهبية في السلطة السياسية. كما تزامن وضع المادة ٩٥ في الدستور اللبناني مع ظروف سياسية مُساعدة تمثّلت بدرجة أساسية في محاولة فرنسا استرضاء الأقليات الدينية في لبنان وسوريا بسبب حاجتها اليهم لمواجهة القسم الأكبر من السنّة الذين كانوا يوالون بريطانيا ويعملون بإيحاء منها لزعزعة الاستقرار الفرنسي في المنطقة. فارتأت فرنسا، ووفقًا لمحضر مناقشات جلسة ٢٢ أيار ١٩٢٦ التي انتهت بإقرار الدستور اللبناني، وضع المادة ٩٥ ارضاءً للموارنة والدروز والشيعة، كما ان القيادات السنّية السياسية والدينية في لبنان لم ترَ أي مانع في تلك المادة خاصةً وانها ستتضمن حقوق الجميع في الدولة وستحول دون استئثار فئة معينة بمقدرات البلاد. وتجدر الإشارة هنا الى مساهمة المادة ٩٥ من الدستور في تنظيم مسألة الصراع على السلطة، وقد ساعد ذلك لبنان في تحقيق حدّ ادنى من الاستقرار السياسي والذي افتقدته العديد من الدول المجاورة بُعيد استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية. وساهم هذا الاستقرار ليس فقط في المحافظة على هوية لبنان التعددية، وانما ايضًا في تحقيق نمو اجتماعي وازدهار اقتصادي لافت في بلد يفتقد للمواد الأولية ولمصادر الطاقة الرئيسية.
إلا انه ونتيجة لظروف إقليمية متشعبة ومتمثّلة بالدرجة الأولى في قيام نوع من تحالف ضمني بين أقليات الشرق نشأت، وانطلاقًا من المادة ٩٥ من الدستور اللبناني ظاهرة الطائفية السياسية في النظام اللبناني. وبات بالتالي وجود أي مكون من المجتمع اللبناني مرتبط بصورة أساسية بوجوده ومدى نمو وجوده في السلطة السياسية. وكان لتعزيز هذه الجدلية، ومنذ العام ٢٠٠٠، دورًا محوريًا في تراجع دور الدولة اللبنانية ومؤسساتها امام تعاظم عمليات الفساد والمحاصصة والسمسرات بين تجار الطائفية. فانعكس ذلك بطبيعة الحال على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي، لدرجة بات فيها الحفاظ على عدم انهيار الاقتصاد اللبناني مرتبط بدرجة محورية بمعونات دول خارجية تمنحها للبنان من خلال مؤتمرات دولية او مساعدات مباشرة، وليس على أسس صلبة. إلا انه ومع بداية ظهور ملامح الانهيار الاقتصادي بعد مراحل طويلة من الفراغ الحكومي والرئاسي وبعد اجراء التسوية الرئاسية الشهيرة عام ٢٠١٦ والتي عززت اكثر فأكثر تحالف الأقليات، بدأت تظهر في المقابل، وكمحاولة لوقف الانهيار، مطالبات بالذهاب بلبنان نحو العلمانية كوسيلة لمواجهة الطائفية السياسية التي اعتبرها كثيرون السبب الرئيسي في الانهيار.
إلا انه وعلى الرغم من تلك المطالبات، ما زال دور الطائفية السياسية يتعاظم في المجتمع اللبناني على حساب المفاهيم العلمانية المنوي تكريسها في المجتمع اللبناني. وذلك عائد الى مجموعة ظروف وعوامل معظمها غير مساعد، ومن بين هذه الأخيرة هو ان مفهوم العلمانية هو مفهوم سياسي واجتماعي حديث مقارنة مع بقية المفاهيم كما انه مرتبط بدرجة أساسية بطبيعة الصراع الذي دار رُحاه في فرنسا بين الكاثوليك والبروتستانت بين منتصف القرن السادس عشر واوائل القرن العشرين، والتي انتهت ببلورة مفهوم العلمانية في أواخر القرن التاسع عشر وصولاً الى إقرار العلمانية بشكلها المعروف اليوم عام ١٩٠٥ من خلال قانون الفصل التام ما بين السلطة الدينية المتمثّلة بالكنيسة وقتذاك والسلطة الزمنية. أما في لبنان فكان اول من تحدث عن العلمانية كمال جنبلاط عام ١٩٤٩ وبيار الجميل عام ١٩٥١ في محاضرتين لهما في الندوة اللبنانية. ولكن في المقابل لم تتقبل غالبية المجتمعات المسلمة في الشرق مفهوم العلمانية، وذلك لسببين أولاً عدم نجاح الفقه الإسلامي الى يومنا هذا في فصل أمور الدين عن أمور الدُنيا في الإسلام، وثانيًا لكون مفهوم العلمانية، وبنظر عدد كبير من المفكرين، هو نتيجة لتطور المسار التاريخي للمسيحية في الغرب. لذلك كان يرى الكثيرون، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر كمال جنبلاط، ان ترسيخ العلمانية في الشرق، وكما يذكر الاختصاصي في هذا المجال الدكتور امين الياس، يقوم بدرجة أساسية على المسيحيين، وذلك ووفق اعتقادنا نظرًا للعب هؤلاء دورًا متقدمًا في القرن التاسع عشر في ترسيخ مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة. إلا انه، ونظرًا لتراجع دور المسيحيين الريادي على مختلف الصعد، بات ترسيخ مفهوم العلمانية، ونظرًا لانتشار الخوف على الوجود لدى كافة أقليات الشرق، صعب المنال في الوقت الراهن.
نظرًا للتطور الذي شهدته المجتمعات الأوروبية والغربية وخاصة تلك التي عملت على ترسيخ المفاهيم المتعلقة بالعلمانية، ليس هناك من أدنى شك من ان العلمانية، وبحكم كونها قائمة على احترام كافة المعتقدات، هي احدى الطرق الرئيسية التي تقود نحو ازدهار وديمومة أي مجتمع. إلا ان المجتمع اللبناني، وكما يذكر النائب المستقيل الياس حنكش، ما زال غير مهيأ لبلورة وترسيخ مفهوم العلمانية. ووفق اعتقادنا، يعود ذلك بدرجة أساسية ليس فقط الى وجود أحزاب ذات أيديولوجية دينية وانما ايضًا الى لجوء أحزاب وسياسيين كثر الى استخدام المعتقدات الدينية ومخاوف المكونات المذهبية كإحدى الوسائل المشروعة في صراعها على السلطة. وفي الختام، وانطلاقًا من طبيعة المجتمع اللبناني وتطوره التاريخي، ان أي نقاش متعلق بتطوير النظام السياسي يجب ان يرتكز بصورة محورية على مدى ملائمة التطور المنشود مع هوية لبنان الحقيقية القائمة على التعددية والحوار والانفتاح.
المصدر: Kataeb.org
الكاتب: د. مارك ابو عبدالله