سرقة موصوفة لأموال المكلّفين التي يدفعونها لبلدية بيروت، تمارسها مافيا تضمّ سماسرة ومحامين وموظفين بلديين.
وفق عملية نصب ممنهجة يعمل هؤلاء على تشجيع أصحاب عقارات خاصة سبق أن تقاضوا تعويضات عن استملاك البلدية لها، برفع دعاوى تطالب بالتعويض مجدداً، فيما يجري إخفاء المستندات التي تثبت زور هذه الادّعاءات.
بالنتيجة، بلدية بيروت مهدّدة بالإفلاس مع تجاوز قيمة الدعاوى ما تملكه في حساباتها!مطلع عام 2016، دفعت بلدية بيروت، بحكم قضائي، 33 مليون دولار لشركة تملك عقاراً على تقاطع مار مخايل – برج حمود، تعويضاً عن استملاك غير مباشر للعقار، بعدما أنشأ مجلس الإنماء والإعمار وصلة طرق فوقه.
الأمر يبدو عادياً.
أمّا غير العادي فهو أن الشركة قبضت ثمن عقارها من البلدية مرّتين! إذ سبق أن تقاضت تعويضاً عن الاستملاك مع بداية تنفيذ المشروع على ما تؤكد مصادر بلدية.
لكن تقاذف المسؤوليات بين دوائر البلدية و«الإنماء والإعمار» حول المهامّ والأدوار والصلاحيات «ضيّع الطاسة»، وحال دون إبراز أي مستند يثبت تقاضي الشركة بدل الاستملاك في المرة الأولى.
واللافت أن المجلس البلدي السابق، ولأسباب مجهولة، تنازل عن حقه باستئناف الحكم، فطارت 33 مليون دولار من حسابات البلدية.لم تكن تلك «قضية ومرّت».
ثمّة دعوى أخرى صدر فيها حكم يُلزم البلدية بتسديد تعويض يفوق الثلاثة ملايين دولار لمالك عقار في منطقة المزرعة، من دون أن تستأنف الإدارة القرار ومن دون الرجوع إلى المجلس.
ورغم أن دفع التعويضات في قضايا مماثلة يستغرق شهوراً، كان لافتاً أن التعويض في هذه الدعوى قُبض بسرعة قياسية لا تتعدى العشرة أيام، لكون أحد «أبطالها» عضواً في المجلس البلدي.هذه، وغيرها من عشرات من القضايا المماثلة، تقف وراءها مافيا تضمّ سماسرة ومحامين وموظفين ومسؤولين في البلدية، و«تهتم» بالاستملاكات غير المباشرة، عبر عملية نصب موصوفة وممنهجة، كالآتي:
1) الحصول على «داتا» كاملة حول الاستملاكات، القديم منها والجديد، والتواصل مع أصحاب العقارات الخاصة المستملكة، خصوصاً في المناطق التي يصل سعر متر الأرض فيها إلى مبالغ خيالية، لإقناعهم بتقديم دعاوى تعويضات تصل قيمتها إلى عشرات ملايين الدولارات أمام المحكمة المدنية في بيروت (الغرفة الناظرة في القضايا الإدارية)، ضد بلدية بيروت بتهمة التعدي على عقاراتهم، حتى ولو كانوا قد تقاضوا تعويضات سابقاً.
2) بعد تبلّغ البلدية بالدعوى، يأتي دور محامي «المافيا» لإيجاد أسس للدعاوى التي تفتقر إلى أي أساس واقعي أو قانوني.
3) تواطؤ بعض الدوائر الإدارية البلدية يؤدي إلى عدم إبراز أي مستندات تدحض الادّعاءات وصولاً إلى إخفائها والادعاء باحتراقها خلال الحرب الأهلية.
4) تعيّن المحكمة خبيراً لتخمين قيمة العقارات. يجري التخمين، عادة، وفقاً للأسعار المرتفعة، فيصدر حكم بإلزام البلدية بدفع ملايين الدولارات تتقاسمها الأطراف المتواطئة.ومعلوم أن الاستملاكات غير المباشرة تأتي بوضع البلدية يدها على ملك خاص عن طريق شقّ طريق أو بناء أرصفة أو استعمال هذا الملك أو جزء منه لمنفعة عامة، مقابل التعويض على المالك ونشر مرسوم الاستملاك مع إبلاغ المعنيين به.
هذا النوع من القضايا التي تصدر بحكم قضائي يتبلّغ به رئيس دائرة القضايا في البلدية فيرفع الأمر إلى المحافظ الذي يوافق على الدفع، من دون الحاجة إلى موافقة المجلس البلدي أو وزارة الداخلية أو ديوان المحاسبة أو أي جهاز رقابي آخر.
وتُدرج المبالغ المدفوعة في الموازنة تحت بند الاستملاكات من دون أن يُعرف إذا ما كانت استملاكات قديمة أم جديدة. هذه «السلاسة» أدت اليوم إلى نحو 25 دعوى رفعها مالكو عقارات جرى استملاكها، واللافت أن محاميين اثنين يتوكّلان عن كل المدّعين الذين يطالبون بتعويضات تصل قيمتها إلى 77 مليون دولار!في كل هذه العملية، يبدو المجلس البلدي كالزوج المخدوع: آخر من يعلم، إذ أن محافظ بيروت السابق زياد شبيب امتنع عن تلبية طلب البلدية بتزويدها لائحة بالقضايا المرفوعة ضدها، على ما يؤكد رئيس اللجنة القانونية في البلدية عضو المجلس المحامي أنطوان سرياني.
بقي الأمر كذلك حتى تسلّم المحافظ الحالي مروان عبود لمنصبه، فاستجاب لطلب المجلس «وأصبح بإمكان اللجنة القانونية الاطلاع على ملفات الدعاوى التي كانت ممنوعة عليها سابقاً». سرياني أكّد أن المجلس «سيدرس كل ملف على حدة بهدف الحؤول دون صدور أحكام ضد البلدية نتيجة تقاعس بعض الدوائر فيها.
وسنتخذ القرارات اللازمة كما حصل في موضوع العقار 358 – المدور الأسبوع الماضي».والعقار المشار إليه كانت تشغل سوكلين قسماً منه فيما تشغل 4 شركات أخرى (شركة عمر الفحل وشركة ميال صحناوي وشركة مستودعات الشرق والشركة الأهلية للمخازن العمومية) 88 ألف متر مربع منه. ومنذ سنوات، لم تتقاض البلدية إيجار العقار من شركتين لم تعودا تشغلانه وعمدتا إلى تأجيره.
في 10/4/2019، صدر قرار بلدي يوصي شبيب بالطلب من الشركات إخلاء العقار ورفع الدعاوى اللازمة لتحقيق ذلك. وقد أحال المحافظ السابق الملف إلى دائرة القضايا وتم تكليف أحد المحامين بمتابعة الموضوع. وبحسب كتاب رفعه سرياني إلى محافظ بيروت الحالي في 12/10/2020، فإن شبيب طلب من المحامي المكلف «استرداد المآجير لعلة الهدم خلافاً لمضمون القرار 190، وهو ما حدا المحامي نفسه إلى تنبيه رئيس الدائرة القانونية إلى أن إقامة دعوى الإخلاء في مقابل الهدم سترتب مبالغ مالية وتعويضات لكلّ المستأجرين»، وفي حال لم تباشر البلدية الهدم وإعادة البناء خلال 18 شهراً، «سيترتب عليها تعويض إضافي للمستأجرين فوق التعويض الأساسي تعادل قيمته نصف قيمة التعويض الأول».
إلا أن رئيس دائرة القضايا محمد الأسعد أصرّ على المضي بهذه الإجراءات من دون إعلام المجلس البلدي. ومع حصول الأخير على لائحة الدعاوى، تبين أن البلدية لم تكن تتقاضى إيجاراً من إحدى الشركات (الأهلية للمخازن العمومية) لأسباب قانونية، وأن الأخيرة أودعت بدلات الإيجار التي بلغت قيمتها نحو 400 مليون ليرة لدى الكاتب العدل.
ومع أن الدعاوى مرفوعة ضد 4 شركات، إلا أن «شركة المخازن» كانت الوحيدة التي تحركت الدعوى الخاصة بها، واللافت أنها قدّمت آخر العام الماضي، وقبل نحو 20 يوماً من تبلغها الدعوى بشكل رسمي، لائحة جوابية أولى مرفقة بمستندات! اطّلاع المجلس البلدي على هذه التفاصيل بعد حصوله على لائحة القضايا، دفعه إلى اتخاذ قرار بالرجوع عن دعوى الاسترداد بحجة الهدم ضد الشركات الأربع، ما أحبط الصفقة التي كانت تقضي بقبض إحدى الشركات تعويضين اثنين، إضافة إلى تخمين بأسعار تفوق السعر الواقعي، لتنتهي بتقاسم الغلة ونيل كل مستفيد 20 مليون دولار على الأقل وفق مصادر بلدية مطلعة. وفي المقابل، تؤكد مصادر إدارية أن المجلس البلدي هو الذي اتخذ قرار الإخلاء، فحوّله شبيب إلى دائرة القضايا التي كلفت محامياً للمرافعة عن البلدية وفقاً للحجة القانونية التي يراها مناسبة للاسترداد.
وعزت تراجع المجلس عن قرار الاسترداد إلى فشل مشروعه لبناء محرقة للنفايات، «وإذا كان هناك من احتيال فهو احتيال المجلس على المستأجرين لا العكس».
هذا واحد من نحو 25 ملفاً تحمل كلها العنوان نفسه: تعويض على استملاكات غير مباشرة، وكلها تسير بنجاح وفق الذرائع نفسها: عدم وجود مستندات تثبت كذب هذه الطلبات بحجة اختفائها أو احتراقها.
من بين الدعاوى واحدة لمصلحة أوقاف المطرانية المارونية تصل قيمتها إلى 25 مليون دولار، وتتعلق باستملاك طريق فؤاد بطرس الذي يجزم أعضاء في البلدية أن تعويضات استملاكه دُفعت سابقاً!
ولكن، بما أن الاستملاك لم يُنفذ، تطالب المطرانية باسترداد ما يُسمى «الربع المجاني»، رغم أن هذا المطلب غير قانوني.
ودعوى ثانية من مالك العقار 1453 – الباشورة يطالب فيها بتعويض قيمته مليون و500 ألف دولار، وثالثة من مالك العقار 20 – المصيطبة يطالب فيها بـ 16 مليون دولار تعويضاً،
وثالثة في الأشرفية بقيمة مليونَي دولار، ورابعة في راس بيروت بقيمة 4 ملايين دولار… واللائحة تطول.
التعويض بالدولارالمشكلة الرئيسية في دعاوى الاستملاك غير المباشر المقامة ضد البلدية أن القضاة يُصدرون أحكامهم بدفع التعويضات بالدولار الأميركي وليس على أساس سعر الصرف الرسمي الذي يوازي 1515 ليرة لبنانية. كما أن الخبراء يخمّنون التعويضات بالدولار.
علماً أن المبالغ التي يطلبها المدّعون ليست نهائية بل تأتي مذيّلة بعبارة «مع الاحتفاظ بحق زيادة التعويض عند ورود تقرير الخبير».
وغالباً ما يأتي التخمين «أعلى بأضعاف مما يطلبه المدّعي نفسه»، ما يعني أن قيمة الدعاوى المرفوعة ضد البلدية والبالغة 74 مليون دولار ليست نهائية، بل يُرجح أن تتضاعف مرتين أو ثلاثاً وتتخطّى الـ 800 مليار ليرة التي تملكها البلدية في حساباتها لدى مصرف لبنان!