“ثورة 17 تشرين” هي الوحيدة في التاريخ التي كان جوهر مطالبها “تطبيق الدستور”

 عندما اندلعت “ثورة 17 تشرين” كان اللبنانيون قد دخلوا فعلاً، وقبل زمن، الأزمة الاقتصادية والمالية، غير أن منظومة الحكم كانت تواصل التغطية عليها، ولم تكن لديها أي خطة لمعالجتها، وكلّ ما استطاعته أن تنبّه أطرافها الى ضرورة الإسراع في تهريب دولاراتهم الى الخارج أو الى الخزائن الخاصة والمنزلية. 

قبل عام ونيّف على “الثورة”، في 2018، كانت الأوساط المالية بالغة القلق من انقطاع طويل للمساعدات العربية، ومن العقوبات الأميركية والنزيف المستمرّ للمصرف المركزي وعبث هندساته. وفي النقاش كان يطفو تحذير ورهان. التحذير من خطر استمرار الدولة في الاستدانة من “المركزي”، لكن أحداً لم يشأ أن يصدّق آنذاك إمكان تشكيل خطر على ودائع الناس. أما الرهان فعلى عودة المساعدات العربية استناداً الى أن العقوبات الأميركية التي بدأت تُفرض على إيران ستقلّص نفوذها الخارجي، وبالتالي نفوذ “حزب الله” في لبنان. ولدى تحليل هذا السيناريو واحتمال أن لا تظهر نتائجه قبل سنة، قال أحد كبار المصرفيين إن هذه المدة طويلة بالنسبة الى لبنان، مستخلصاً: “الله يستر!”.

في ذلك الوقت، كان لبنان قد حصل لتوّه، عشية انتخابات 2018، على مشروع “سيدر” لتمويل مشاريع من شأنها أن تنهض بالاقتصاد، لكنه أضاع ثمانية شهور في أزمة تشكيل حكومة جديدة يُفترض أن تهيئ الأرضية الإصلاحية لتلقّي أموال “سيدر”، ثم بدّد تسعة شهور أخرى كانت تبدو ظاهرياً سعياً الى “التوافق” على الإصلاحات، لكنها كانت واقعياً الفترة القاتلة التي هُرّبت خلالها الأموال.
 
لا المصرف المركزي ولا المصارف ولا الدولة شاء أن يتحمّل مسؤولية دقّ ناقوس الخطر، بل تواطأوا على إدارة النزيف، وتوافقوا على إخفاء الحقائق لأنها نتيجة فسادهم وسرقاتهم، فكلّ مَن يخلّ بقاعدة الصمت يجازف بإخراجه من المشهد.

كان بعض المجتمع المدني قد توصّل قبل ذلك الى خلاصة “كلّن_يعني_كلّن”، التي أعادت “ثورة 17 تشرين” تظهيرها، ومع الوقت ازداد هذا الشعار عمقاً وقوّة. فـ”الثورة” بدأت سلميّة، واخترقها “الثنائي الشيعي” مع بعض أطراف السلطة لتبرير قمعها ومحاربتها وشيطنتها، وسانده وباء “كورونا” في إخلاء الساحات والحصول على شارع هادئ، لكن عقم حكومته أخفق في توطيد تحكّمه وتسلّطه، لأن الأزمة بقيت وتفاقمت وانكشفت حقيقتها: ليست أزمة اقتصادية ومالية فحسب، بل أزمة طبقة سياسية فاسدة ارتهنها “حزب الله” وفرض عليها السكوت عن انتهاكاته للسيادة والدستور والقوانين، وعن مخالفاته في اختراق المؤسسات والسيطرة على الحدود، وعن سعيه الى تغيير النظام وصيغة الحكم.

بقيت السلطة، أثبتت قوتها ووجودها، اعتبرت – كما اعتبر بشار الأسد – أنها انتصرت على “الثورة”، على الشعب. استثمرت في الأزمة، في الإفقار والعوز، لتعزيز هذا الانتصار، لكن حالها كحال نظام الأسد، تحتاج الى الخارج لإنعاشها، والخارج لا يريد التعامل معها. أصبحت منبوذة دولياً لأنها، مثل نظام الأسد، تفتقد الإرادة لفعل ما يلزم لإنقاذ البلد، لكن عجزها عن تشكيل حكومة كشف تهرّبها من أي “إنقاذ” لأنه يهدّد بقاءها. 

هناك من قال إن “ثورة 17 تشرين” هي الوحيدة في التاريخ التي كان جوهر مطالبها، ولا يزال، تطبيق الدستور والقانون، فيما أصبحت السلطة تستسهل حرف الدستور والعبث بالقوانين جهاراً نهاراً، كسبيل وحيد لتغطية فسادها وتأمين بقائها. يستند “الثنائي الشيعي” الى “انتصاره” لنسف “اتفاق الطائف” واجتراح دستور يناسب أجندته الإيرانية، ويطرح “التيار العوني” تعديلات دستورية تنسجم وكيديّاته، تماماً كما يريد الأسد من الدستور الذي يعدّ بإشراف أممي أن يساعده في الحفاظ على نظامه ودكتاتوريته. ولأجل ذلك تحاول منظومة الحكم اللبناني أن تقايض بقاءها بترسيم الحدود مع إسرائيل إرضاءً للولايات المتحدة، أما نظام الأسد فيمارس الآن بقاءه بتلزيم سوريا الى روسيا قطعة قطعة، وروسيا تلزّمها الى تركيا وإيران وإسرائيل.

كل ذلك وغيره الكثير من الظواهر يعني أن “الثورة”، التي يقال إنها فشلت وتراجعت وانتهت، غيّرت اللعبة. لم تعد منظومة السلطة متماسكة، ظهرت تشققاتها غداة “17 تشرين” وازدادت، فقدت كامل صدقيتها في الداخل، ولم تعد صالحة للتعامل معها في نظر الخارج، كل الخارج. ذهبت الولايات المتحدة باكراً الى العقوبات وربما تواصلها، وطرحت فرنسا خطة إنقاذية بعد انفجار المرفأ، وبدل أن تكون لدى المنظومة أجندة “مصلحة وطنية” للاستفادة من أي سعي دولي، فإن عقلها “الأسدي” يزيّن لها اللعب على ما تعتقده تناقضاً بين باريس وواشنطن. في العادة كانت السلطة الكاسبة المباشرة من أي أدوار خارجية، لكن سلطة يهيمن عليها “حزب الله” لم تعد مؤهّلة لأي مساعدة خارجية، لأن اللعبة تغيّرت.

ربما تراهن منظومة السلطة على تسوية أميركية – إيرانية، ستحصل حكماً، أياً يكن الرئيس المنتخب في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. ومن دون التكهّن حول تفاصيلها، فإن بدايات هذه الفرضية لن تتبلور قبل مرور سنة على أقل تقدير. في الانتظار، لا بدّ لهذه المنظومة من أن تلتفت أكثر الى الداخل للتعامل مع المتغيّرات. فـ”الثورة” لم تمت، بل ستنتقل الى أساليب عمل أخرى، من العمق وليس فقط من الشارع، خصوصاً أن الأجندة الداخلية ازدادت وضوحاً. كانت “حكومة اختصاصيين مستقلّين” بين مطالب “الثورة” قبل أن تتبنّاها باريس وواشنطن، كذلك “الشفافية” وملاحقة الفساد والفاسدين… لكن الأهم أن مسألة السلاح غير الشرعي والدور الايراني لـ”حزب الله” أصبحا أيضاً في واجهة معوّقات الإصلاح ووقف الانهيار وإخراج لبنان من الأزمة، ولا يمكن أي تسوية دولية أن تقرّ هيمنة إيرانية على لبنان. وحتى التمترس الطائفي لم يعد عنصراً مساعداً لاستدامة أسلوب الحكم ذاته، فاللعب وفقاً للطائفية شيء واختيار شخوص الحكم والإدارة بناء على التبعية والتزلّم بات شيئاً آخر، وهو ما أثبته فشل الحكومة المستقيلة.
نعم، لم تنجز “الثورة” أهدافها، وما كانت لتحقّق تلك الأهداف خلال عام بمجرد بقائها في الشارع، لكنها أشاعت روحاً جديدة في لبنان وزرعت معايير لم يعد تجاهلها ممكناً.