نجونا..لكننا لسنا بخير

كتبت آية الراوي  في المدن:

أتحدث مع أصدقائي، ونخجل من كلمة “كيفك”. عبارة الحمد الله عالسلامة ترددت على مسامعنا أكثر من ألف مرة. كتبناها وقلناها وتلقّيناها، وربما نحن لسنا مقتنعين بها أصلا.

صديقتي تقول انها تمنّت الموت في تلك اللحظة. لم تكن تريد النجاة. صديقي يقول إنه نجا من الموت “على شعرة”، وانه بطبيعة الحال ليس بخير. لسنا بخير. تحدثنا عن خوفنا من مجسَّم لطائر فينيق جديد مصنوع من زجاج المدينة المكسور في عمل فني معاصر يعبّر عن الأمل والنهوض من تحت الرماد… الفكرة أصبحت مرعبة! وليست فقط مبتذلة. هناك من يقول في سخرية مريرة أنه سوف يطلق النار على أول طائر فينيق يراه ينهض من تحت الردم.

تحدثنا عن رفضنا للأمل. لا نريده. الأمل ليس الحلّ الآن. تذكّرنا ثلاثية  المخرج الإيراني الراحل عباس كياروستامي المسمّاة بثلاثية كوكر، التي يتناول فيها من زوايا عديدة آثار وقوع زلزال والقصص الناجمة عنه، وفي فيلم “وتستمر الحياة” Life and nothing more ، يظهر رجل هرم من السكّان المنكوبين ويقول: “أن تستمر في الحياة هو أحد أنواع الفنون”، ورسالة المشهد مفادها الإصرار على الحياة والتفاؤل. نعم، هذه ردة فعل الإنسان الطبيعية… الاستمرار في الحياة هو أحد أنواع الفنون، لكن هنا الوضع يحتوي على مفارقات مهمة.

الانفجار الذي هزّ بيروت في الرابع من آب ليس كارثة طبيعية، ليس إعصاراً ولا عاصفة ولا تسونامي. ليس قضاءً وقدر. هو نتيجة تراكمات لا تُعدّ ولا تُحصى من الفساد والإهمال والنفاق، هذا إذا وضعنا جانباً فرضّية أن يكون اعتداءً ممنهجاً أيا كانت الجهة.  هو في شتى الأحوال جريمة ارتُكبت بحق الشعب. وما يزيد من هولها هو برودة أعصاب رجال السلطة ولا مبالاتهم، فلم نحظَ منهم حتى بدموع كاذبة، هم يحتفلون بأعراس أولادهم بعد مرور أيام قليلة على الفاجعة، وكأن أحداً لم يمت،  وكأن عائلات لم  تتشرّد وكأن مدينة لم تصبح دماراً وكأن ذاكرتها لم تُمحى…. قطعاً هم ليسوا منّا. لا ينتمون إلينا. أو ينتمون إلينا بقدر ما ينتمي السجّان إلى الزنزانة التي يحرسها والجلاد إلى المشنقة التي يمدّها. لا مكان للأمل تحت حكم هؤلاء.

قد يكون الأمل خدعة لتجاوز المستحيل أو ما يبدو مستحيلاً، وهو أداة تتشبّث بها غريزة البقاء، وقد يكون المحرّك الأساسي للحياة والاستمرار والمقاومة والديمومة والحب والعمل. صحيح. ولكن ماذا لو ضاقت بنا فسحة الأمل هذه إلى درجة الاختناق؟ ماذا لو انهار هذا الأمل  على رؤوسنا وكان أداة أُخرى لتطويع الناس وتعويدها على الذل والمصائب؟ لا فسحة للأمل في منازلنا المنكوبة وحياتنا المدمّرة وأحلامنا المهدورة، لا مكان له على أسرّة الجرحى ودموع الأرامل والأمهات وكل من فقد قريباً أو صديقاً. حتى جملة “نحن محكومون بالأمل” أصبحت مزعجة. لا بل مُهينة.

الأمل في بلادنا يشبه التنجيم والإيمان بالشعوذات، هو مادة لتطويع الشعوب أو تعزيز ما يُسمّى بالresilience، بمعناها السلبي أي بما يخدم مصالح السلطة من قبول المواطن بإجراءات معيّنة وخضوعه لشتى أشكال القمع المباشر وغير المباشر، وتعوّده على واقع جديد يُفرض عليه، بحجّة أن ذلك نوع من المرونة والصلابة والقدرة على التحمّل والتأقلُم وبالتالي شكل من أشكال البطولة.

الأمل في هذه الحالة قد يخدم التطويع وقد يتحوّل إلى ترويض عقيم وفولكلور لا بدّ من تجنّبه على الأقل في الوقت الحالي. التضامن واجب، والتفاؤل حق، والعمل نجاة.

  وليكن الأمل إن كان لا بد منه مشحوناً بالغضب وبالتخطيط وبالرفض أوّلاً وآخرا. رفض التعوّد.

رفض البطولة هذه التي لم يخترْها أيّ من القتلى.نعم بيروت شهدت خرابا وشهدت دمارا عبر الزمن والحقبات التاريخية والغزوات والحروب والمجازر، وأُعيدَ بناؤها عشرات المرّات… ولكن الجميع يتّفق على أن ما حصل لا يشبه أياً من كل ذلك، وأهالينا شاهدون.

الحياة تستمر بكل تأكيد، ودائماً، ولكن ليكن لنا الحق في فقدان الأمل هذه المرّة، وبعدم النهوض من تحت الركام “أفضل وأبهى من ذي قبل”. لتكن الصرخة صرخة يأس وألم وغضب ولتكن لعنة موّجهة إلى من كانوا السبب.