هجوم “تيت”.. القدرة الهيكلية للمقاومة على استيعاب الصدمات

في سياق الحرب الفيتنامية، والتي جرت على مراحل متعددة بهدف تحرير الجنوب الفيتنامي من الهيمنة الغربية وإسقاط حكومة الجنوب – جمهورية فيتنام في ذلك الوقت- قام ثوار فيت-كونج، مدعومين بجيش الشعب الفيتنامي الشمالي، بهجوم مفاجيء في الثلاثين من يناير/كانون الثاني في العام 1968م. كانت الفكرة الأساس من الهجوم هي تشجيع الشعب في جنوب فيتنام على الانتفاض ضد الحكومة العميلة وإسقاطها. لكن قوات فيتنام الجنوبية، والمدعومة في ذلك الوقت من الولايات المتحدة فضلاً عن حلفاء إقليميين مثل كوريا الجنوبية وتايلاند، تمكّنت من احتواء الهجوم وتحويل المعركة إلى هزيمة تكتيكية للمهاجمين. إذ خسرت فيها فيتنام الشمالية وفيت كونج عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من المشردين في مدن فيتنام الشمالية، والتي أفرط الطيران الأمريكي في قصفها. عُرف هذا الهجوم بهجوم “تيت” وهو اسم مشتق من رأس السنة باللغة الفيتنامية، وقد انتهى كما قلنا بإحباط مرحلي وخسائر فادحة للمهاجمين.

 

لكن كيف كانت آثاره الاستراتيجية على نتيجة حرب فيتنام في المجمل؟

 

على الرغم ممّا حققته الولايات المتحدة، برئاسة ليندون جونسون، من مكاسب على أرض المعركة، لم تكن تلك المكاسب مجانية، فقد جعل الهجوم المفاجيء، في العام 1968م، هو الأكثر دموية في تاريخ الحرب، وعاد 16000 جندي إلى الولايات المتحدة في توابيت؛ ثم إن المقاومة الشمالية أعادت تنظيم صفوفها، وتكبدت الولايات المتحدة في العام التالي خسائر بالآلاف في الأرواح. حينئذ، بلغت المعارضة للاستمرار في الحرب داخل الولايات المتحدة ذروتها، وبدأت الضغوط الداخلية تزداد، ما قلل دعم الولايات المتحدة العسكري لحكومة الجنوب، وصولًا إلى سقوط سايجون في العام 1975م بيد الثوار.

 

لم يكن إحباط هجوم “تيت” حدثًا فريدًا في تاريخ حركات المقاومة العالمية، فقد عانت الثورة الكوبية في بداياتها من إحباط هجوم الثوار على معسكر “مونكادا”، والذي أعقبه القبض على “فيديل كاسترو” وقيادات المقاومة. كذلك عانت الثورة الجزائرية إحباطات متعددة عبر مسارها، ومنها “خط موريس” الذي تكوّن من أسلاك شائكة مكهربة بطول الحدود الجزائرية التونسية لمنع إمدادات السلاح والمؤن عن الثوار، وسياسة العقاب الجماعي للقرى المتعاونة مع جبهة التحرير، والتي أقرتها فرنسا ابتداءً من العام 1957م. لكن في كل هذه الحالات، تمكّنت المقاومة من استيعاب الإحباطات، والوقوف من جديد، ثم أتبعت سببا!

 

 

 

السؤال: ما هي الأسباب الهيكلية التي مكّنت حركات المقاومة من استيعاب الإحباطات؟ واستعادة زمام المبادرة، وصولا إلى التحرير؟

 

بتقديري أن أهم تلك الأسباب:

 

مهمة حركات المقاومة تنطلق من تعريفها هي الحرب غير المتكافئة، أي تعرف منذ البداية أنك تواجه عدوًا يمتلك من مقومات القوة ما يفوق ما تملكه بمراحل. لهذا لا تعاني حركات المقاومة ما تعانيه الدول عندما تتعرض لإحباط عسكري تكتيكي؛ فالنصر هو المصدر الوحيد لكبرياء الدول، أما حركات المقاومة فكبرياؤها هو الاستمرار في المقاومة.

الخزان البشري للمقاومة، أو البيئة الحاضنة، والذي يمكّنها من استعاضة خسائرها البشرية، وتجديد هياكلها.

حقانية القضية وعدم وجود بدائل معقولة لحلها غير المقاومة. في نموذج فيتنام كانت الخيارات منحصرة في القبول بفيتنام منقسمة – على غرار كوريا الشمالية والجنوبية، أو آيرلندا الشمالية والجنوبية اليوم- أو المقاومة! وفي نموذج كوبا كانت الخيارات منحصرة في القبول بحكومة باتيستا العميلة للولايات المتحدة أو الثورة، وقل مثل هذا في الجزائر، وفي لبنان، وفي فلسطين.

المسألة مع المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، توجد هذه الأسباب الهيكلية كلها، وتضاف إليها عدة أسباب، وأهمها:

 

طبيعة العدو الصهيوني الذي لا يقبل حتى بتثبيت الأوضاع لو قبلت أنت بها! فهو عدو توسعي وإحلالي. وهو لا يحترم الاتفاقيات، ولا يعترف بالمجتمع الدولي ولا بالشرعية الدولية

طبيعة الشخصية العربية التي تمتلك ما يمكننا أن نسميه “غريزة المقاومة”. من ينظر للتاريخ العربي قبل الإسلام يجد صفات العزة والإباء التي صنعت أيام العرب، والتي كانت حينًا مؤسسة على الانتماء القبلي، وحينًا على الانتماء العربي في مواجهة الإمبراطوريات المحيطة بالجزيرة العربية. حقيقي أن غريزة المقاومة تلك قد تشوشت بآثار العولمة والحياة الاستهلاكية، في قطاعات واسعة من الأمة العربية، لكنّ آثارها ما تزال باقية في المزاج الشعبي العام الذي تكشف بعد “طوفان الأقصى”.

البعد العقائدي، الإسلام، ومثله المسيحية الشرقية، قد خلق “غريزة المقاومة” تلك خلقًا جديدًا بعقيدة الشهادة. ومنح قداسة للأرض والعرض لا تقل عن قداسة الدين، فضلاً بالطبع عن ارتباط قضية فلسطين بأهم المقدسات الإسلامية والمسيحية.

تأسيسا على كل ما سبق، من يظن أن ما تكبدته المقاومتان الفلسطينية واللبنانية من خسائر في معركة “طوفان الأقصى”، سيؤدي إلى تغير استراتيجي لمصلحة العدو، عليه أن يدرك أن الظن لا يغني من الحق شيئا، وأن درس التاريخ يناقض ظنه. نعم، هناك نية دولية واضحة لإعادة تشكيل غرب آسيا (الشرق الأوسط)، وهناك لحظة مواتية لذلك. لكن الإرادة الدولية ليست إرادة إلهية! قد ينجحون في صناعة شكل جديد لــ”الشرق الأوسط”، لكنه لن يكون نموذجا “منزوع المقاومة” كما يتمنونه! فالمقاومة باقيةٌ ما بقي الاحتلال ومادام الظلم، المقاومة باقية مهما تغيرت الأنماط والأسماء والأشكال. تلك فطرة إنسانية، وسنة إلهية، ولن تجد لسنة الله تبديلا!

المصدر خاص موقع أوراق

د. اياد حرفوش/(كاتب مصري

 

خاص موقع “أوراق”