شرفات تتحدى الحجر
كشف لنا فيروس كورونا وظائف جديدة للمكان. ومن ذلك أن شرفة البيت (البلكون) في بعض البلدان باتت بمثابة منصة تعبير. ووجد البشر الذين يمتلكون حدائق وشرفات في منازلهم، أن معاناتهم في الحجر الصحي أخف وطأة بما لا يقاس ممن يعيشون في بيوت مغلقة، مهما كان حجم المساحة. وصرنا على مدى شهرين من حصار كورونا، نشاهد تحقيقات صحافية وصوراً عن حياة كاملة في الشرفات وحدائق البيوت. ولا يتوقف الأمر عند السهر ليلاً وتناول قهوة الصباح، فهذه عادات دارجة، بل ممارسة الرياضة، واستقبال الجيران من أجل نشاطات مشتركة، أو محاورة سكان البيوت المجاورة أو التي تقع في الجهة المقابلة. وشيئاً فشيئاً، صرنا نشهد نشاطات من نوع مختلف، طابعها اجتماعي وثقافي وفني واحتجاجي.
الحكاية بدأت من إيطاليا بعد أيام قليلة من فرض الحظر الحجر الصحي في 8 مارس/آذار، حيث شهدنا حفلات موسيقية وغنائية على الشرفات، وعروضاً مسرحية. وبعدها صارت البلكونات منابر حلقات نقاش حول الحياة في ظل الوباء، من أجل احتواء الانعكاسات وامتصاص السلبيات، خصوصاً العنف المتولد عن الضغط داخل الجدران. وتحولت الشرفة إلى ملتقى يومي، يخرج إليها كل من يود كسر الحصار داخل البيت، والبحث عن متنفس في الثرثرة والحوار، أو التعارف وتبادل الآراء والتدخين وتناول العشاء، وشيئاً فشيئاً كسر الناس قسوة الحصار المطبق على الصدور من خلال تحويل المكان إلى حيز عام وفضاء خارجي.
ومن النقاشات على البلاكين، بدأت تخرج مشاريع السهرات والطبخات الجماعية وحفلات الموسيقى والنقاشات، وكذلك تحول البلكون إلى منصة للتعبير والاحتجاج في غياب الشارع الذي كان يشكل مكاناً للتظاهر، وصرنا نشاهد على البلكونات شعارات مرفوعة مكتوبة بخط يدوي على كرتون عادي بدلاً من اللافتات، تحمل مطالب سياسية: “ماكرون إرحل. والمشافي مقصرة.. نريد مشافي وطبابة تحترم المواطنين”، أو شعارات تندد بالصين: “الصين قاتلة”. أو شعارات ذات طبيعة نضالية: “كوفيد 2019 قاتل.. الاحتلال قاتل أيضاً.. فلسطين حرة.. أنقذونا من كورونا بوتين والأسد..”.
ومن بين الأماكن التي أعاد لها كورونا الاعتبار، هو البيت. وتبين أن الحجر الصحي طبقات. بيت مع حديقة ومسبح، يختلف عن بيت مقفل. بيت مع شرفة تطل على البحر، أفضل من بيت بشرفة تطل على شارع جانبي. شرفة كبيرة أفضل من شرفة صغيرة. وهكذا يتحدد الأمر. قل في أي مكان عشت الحجر الصحي، أقُل لك من أنت، وكيف تأثرت به! وعلى أهمية هذه التفاصيل، فإن البيت يمكن أن يتحول إلى سجن بخمس نجوم، إذا افتقد إلى ما أحاط بهذا الطقس الاجباري والقاسي (الحجر الصحي) من إبداعات تجرأت كلها على كسر عنفه وجبروته.
وتشير بعض مقالات الصحف الفرنسية والانكليزية إلى أن وسائل التواصل التي كانت تشكل عالماً موازياً وافتراضياً في ظروف انفصال الناس عن الشارع، لم تتمكن من سد النقص والنهم الذي خلّفه حصار كورونا، وبدت مسألة الحياة الافتراضية بدعة هشة، وصار وجود نافذة إلى الخارج متنفساً ضرورياً.
هناك أمران مهمان، هما أن الحجر ضد المجتمع، ليس من منطلق تقييد حرية الناس فقط، وإنما من زاوية اللقاء مع الآخر الذي لا يمكن تعويضه بأي نشاط داخلي بين أربعة جدران. وقد تفيد القراءة ومشاهدة الأفلام والمسرحيات في تقطيع الوقت، وليس استثماره على نحو سليم في هذه اللحظة الصعبة. والأمر الثاني هو مسألة العلاقة مع الفضاء الخارجي. ولدى كل الشعوب هناك داخل الدار وخارج الدار.. وهنا تأتي مكانة الحديقة والشرفة. الحديقة أساسية في البيت التقليدي والريفي، وكان يسميها البعض صحن الدار. أما البلكون فقد نشأ في العمارة ذات الطوابق، واشتهرت به بيوت الشرق، او تلك التي نشأت على شواطئ البحر وضفاف الأنهار، وهذا ما نلحظه في عمارة البحر المتوسط حيث معدل أيام الشمس والضوء مرتفع، الأمر الذي يجعل من البلكون فضاء ذا قيمة خاصة لتناول الطعام وشرب القهوة والشاي والسهر واستقبال الزوار.
يقول جان لاكان: “إن الذات دائماً ما تدرك نفسها أكثر فى الآخر، لكنها فى الوقت نفسه، تسعى هناك الى ما هو أكثر من نصف ذاتها، فالذات هي كذلك فقط لأنها تخضع لمجال الآخر… وهذا هو السبب في أن الذات ينبغي أن تخرج… ان تضع نفسها خارجاً”. وهنا يتجلى الجدل بين الحيز العام والحيز الخاص. والحيز الخاص هنا مغلق، ولا يمكن أن تكتمل حرية الكائن إن لم يجد نفسه في الحيز العام: مكتب، مقهى، شارع، حقل،.. ولذلك أول ما يعمل عليه السجناء المحكومون لمدد طويلة هو الانفصال عن الحيز العام، والقيام بقطيعة ذهنية وعاطفية مع الخارج، والانكفاء إلى الداخل من أجل مواجهة شروطه الصعبة والقاسية. لو كان للسجن شرفة، لأصبح السجين بمثابة الطائر الذي ينظر نحو الفضاء.
لن يعود البلكون ملحقاً بالبيت يمكن الاستغناء عنه، بل صار ضرورة للتعويض، ومنصة في غياب الشارع ووسائل التعبير العامة. وصرنا نسمع البعض يقول “من هذا البلكون” في حين كان يخطب في السابق “من هذا المنبر“.
المصد :”المدن”