يخطئ كثيرون عن معرفة أو عن جهل، بقصد أو بغير قصد، حين يقولون إنّ حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب هي المسؤولة عما حصل من دعم لعدد غير قليل من السلع بعد تدهور قيمة العملة الوطنية.
ويتمادى البعض في الخطأ، خاصة أولئك الذين يعرفون أنه خطأ، إلى حدّ القول بأنّ ذلك الدعم كلّف 30 مليار دولار، كما قال (مع الأسف) النائب الأول لحاكم مصرف لبنان الدكتور وسيم منصوري خلال جلسة لجنة الإدارة والعدل النيابية قبل أسبوعين. ومثلُ منصوري يفعل الكثير من “الخبراء” الذين يريدون التعمية على ما حصل من ارتكابات وموبقات على يد مسؤولين محدّدين ومعروفين من قبل كلّ اللبنانيين، سواء من السياسيين أو من المسؤولين المصرفيين (في القطاعين الرسمي والخاص) ومعهم عدد من رجال الدين والإعلاميين.
الخطأ واضح جداً ولا يحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق لإظهار الحقائق، إذ كيف يمكن أن تكون كلفة الدعم 30 مليار دولار، بينما أعلن مصرف لبنان نفسه أنّ حجم الاحتياطي المالي لديه كان بحدود 22 مليار دولار في أواخر شهر شباط 2020 (أيّ عندما نالت حكومة البروفيسور دياب الثقة من المجلس النيابي)، وكان أكثر من 14 مليار دولار حين تمّ الإعلان عن تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الحالية.
العجيبة أو المعجزة التي يريد البعض إقناع اللبنانيين بأنها حصلت، وهي أنّ حجم الاحتياطي عند نيل حكومة الرئيس دياب الثقة كان 22 مليار دولار، فكيف يمكن لهذه الحكومة أن تصرف 30 مليار دولار من الاحتياطي! وإذا كان حجم هذا الاحتياطي 22 ملياراً عند بدء عملها وكان أكثر من 14 مليار عند انتهاء مهامها مع تشكيل حكومة الرئيس ميقاتي، فهذا يعني أنّ كلّ ما صُرف في أيامها لم يتجاوز الـ 8 مليارات دولار…
دعم الكهرباء والليرة…!
هنا لا بدّ من توضيح بعض الأمور أمام الرأي العام الذي يجب إطلاعه على الحقائق والوقائع كاملة خاصة بما حصل في قصة الدعم التي بدأت قبل ثلاثين عاماً حين اعتُمدت عام 1994 سياسة دعم الكهرباء من خلال تجميد سعر الكيلوات مهما كانت تقلبات أسعار المحروقات عالمياً، وهذا ما جعل الخزينة العامة تتحمّل منذ ذلك الحين إلى اليوم أعباء كبيرة جداً بمليارات الدولارات…
كذلك تمّ منذ ما بعد العام 1993 دعم العملة الوطنية من أجل تحقيق الاستقرار النقدي، وكان يُقال إنّ الدعم سيكون مؤقتاً، ولكن رغم أنّ الاستقرار قد تحقق استمرّ الدعم لسنوات طويلة وهو مستمرّ حتى يومنا هذا رغم الكلفة العالية جداً التي ترتبت على الخزينة العامة، وكان لها الدور الأكبر في تراكم الدين والأزمات حتى وصلنا إلى مرحلة الإفلاس التي نعيشها اليوم.
إذن دعم الكهرباء ودعم العملة الوطنية مستمرّان منذ ثلاثين سنة، بكلّ ما رافقهما من صفقات وعمولات وفساد، قبل مجيء حكومة الرئيس دياب، وبالتالي لا علاقة لحكومة الرئيس دياب بتلك المسرحية التي يعرف الناس جميعاً مَن كتب فصولها ومن هم المخرجون والممثلون والكومبارس، فيما كان المواطنون بمثابة المتفرّجين في عرض درامي موجع لا يزال مستمراً…
ويعرف الجميع أيضاً أنّ الحصول على معلومات واضحة ودقيقة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو أمر مستحيل، ورغم ذلك كان في صيف 2019 يصرّح أنّ حجم الاحتياطي هو بحدود 30 مليار دولار، وقد تمّ يومها وضع بعض البرامج لدعم سلع معينة كالمحروقات والأدوية، مع استمرار ما كان قائماً من دعم منذ عقود للقمح والطحين والكهرباء، فضلاً عن دعم الليرة… وذلك بقرار شخصي من حاكم مصرف لبنان.
هذا كان قبل أن تتسلّم حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب مسؤولياتها وهي التي نالت ثقة المجلس النيابي في 11 شباط 2020، وكان الاحتياطي كما ورد آنفاً بحدود 22 مليار دولار في أواخر شباط 2020.
وقد بيّنت التحقيقات القضائية اللبنانية والأوروبية، وخاصة تحقيقات القاضية غادة عون، أنّ الـ 9 مليارات دولار التي نقصت من الاحتياطي بين صيف 2019 ومطلع 2020، أقرَضها حاكم مصرف لبنان للمصارف بعد 17 تشرين الأول 2019 وقبل نيل حكومة الرئيس دياب الثقة، وفيما سدّدت المصارف هذه القروض لمصرف لبنان بـ “اللولار” صار مؤكداً أنها هرّبت الدولارات الحقيقية إلى حسابات في الخارج تخصّ أصحاب المصارف وأصحابهم من السياسيين ورجال الدين والإعلاميّين.
إشارة هنا إلى ما تؤكده مصادر مصرفية عليمة أنّ كلّ الحسابات العائدة لرؤساء وأعضاء مجالس إدارات المصارف وكبار مدرائها تمّت تصفيتها بين تشرين الأول 2019 ومطلع 2020، وتمّ تهريب الأموال إلى الخارج بوسائل عديدة كان آخرها التخلص من سندات الخزينة بالعملات الأجنبية، وهو ما أدّى أيضاً إلى إفشال خطة إعادة جدولة هذه السندات فكان قرار التوقف عن الدفع في 7 آذار 2020!
وحين تمّ توقيع مرسوم تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 10 أيلول 2021 كان حجم الاحتياطي 14,8 مليار دولار ما عدا حقوق السحب الخاصة (SDR) بقيمة 1,136 مليار دولار. وبذلك تكون قيمة الاحتياطي الإجمالي في 10 أيلول 2021 حوالي 16 مليار دولار في الوقت الذي كان الاحتياطي الإلزامي المطلوب يومها هو 14 مليار دولار، علماً أنّ حقوق السحب الخاصة كانت قيمتها التقديرية من صندوق النقد الدولي في بداية 2021 حوالي 860 مليون دولار، ولكن حكومة الرئيس دياب ومن خلال جهود حثيثة بذلها وزير المال الدكتور غازي وزني سعت إلى زيادة المبلغ ليصل الى 1,136 مليار دولار تمّ تحويله الى لبنان في 10 أيلول 2021 في اليوم نفسه الذي تمّ إصدار مرسوم تشكيل حكومة الرئيس ميقاتي.
أما عن قيمة الدعم للمواد الاستهلاكية فقد بلغت خلال فترة حكومة الرئيس دياب حوالي 7,6 مليار دولار (خلال 18 شهراً من بداية 2020 حتى حزيران 2021) من ضمنها كلفة الفيول للكهرباء وإدارة معامل الإنتاج. وكانت حصة دعم السلع ما عدا ما يختصّ بالكهرباء حوالي 5,8 مليار دولار خلال فترة 18 شهراً. وهذا موثّق في كتاب مصرف لبنان الموجه الى وزير المال في تموز 2021، وهو ما أعلنه “الحاكم” في مقابلته التلفزيونية الأخيرة مساء الأربعاء الفائت.
اليوم، نحن في آخر تموز 2023، حيث تبلغ قيمة الاحتياطي كما صرّح سلامة نفسه حوالي 9 مليار دولار، ولا نسمع أو نقرأ أيّ كلام في الصحافة والإعلام عن تجاوز قيمة الاحتياطي الإلزامي سلباً، في الوقت الذي كان بعض الإعلام والإعلاميين يوجهون الكلام التهديدي بشكل مستمرّ خلال فترة حكومة الرئيس دياب (2020 ـــــ 2021) في حال انخفضت قيمة الاحتياطي عن 14 مليار دولار (أيّ الاحتياطي الإلزامي في ذلك الوقت).
علماً أنّ الموازنة العامة لسنة 2021 خلال فترة حكومة الرئيس دياب سجلت للمرة الأولى خلال 31 عاماً فائضاً نسبته 1,2% من الناتج المحلي حسب تقرير صندوق النقد الدولي.
هذه هي باختصار حقيقة أرقام الاحتياطي وكلفة الدعم الذي لم تقرّر حكومة الرئيس دياب السّير به كما لم تقرّر وقفه، كان الدعم ساري المفعول قبلها وبقي كذلك بعدها إلى أن قرّر حاكم مصرف لبنان وقف الدعم عن بعض السلع الغذائية والمحروقات والأدوية… والاستمرار في دعم بعض السلع الأخرى، علماً أنّ منصة صيرفة نفسها لا تخرج عن كونها آلية دعم لليرة بشكل من الأشكال، والتي تتجاوز كلفتها الشهرية الـ 200 مليون دولار يصرفها سلامة بقرار شخصي منه، كما صرف الكثير قبلها متجاوزاً كلّ القوانين، بدليل أنّ نواب الحاكم طلبوا من مجلسي الوزراء والنواب تغطية قانونية لصرف مثل هذه المبالغ شهرياً إذا أرادوا الاستمرار في عمل منصة صيرفة!
البطاقة التمويلية
والعقود الآجلة للمحروقات
ويجدر التذكير هنا أنّ حكومة الرئيس دياب طرحت بدائل كثيرة للدعم، لكنها رُفضت من قبل المستفيدين من آلية الدعم التي اعتمدها مصرف لبنان مع التجار والمستوردين، ومن أهمّ البدائل من الناحية العملية هي البطاقة التمويلية التي وُضعت لها الدراسات والبرامج التطبيقية في وزارة الشؤون الاجتماعية وعلى رأسها البروفيسور رمزي مشرفية، وتبيّن أنّ كلفتها تبلغ حوالي 1,2 مليار دولار في السنة إذا تمّ دعم نحو 400 ألف عائلة بمعدل تقريبي قدره 100 دولار شهرياً، فيما آلية دعم السلع المعتمدة من قبل مصرف لبنان كلفت الخزينة العامة نحو 6 مليارات دولار في غضون 18 شهراً…!
كما طرح الرئيس دياب بديلاً ثانياً يوفر على الخزينة العامة نحو مليار ونصف المليار دولار سنوياً، وهو المتعلق باستيراد الفيول لمعامل الكهرباء، حيث من المعروف أنّ أسعار النفط انخفضت بشكل كبير جداً خلال 2020، وبعدما كان سعر البرميل قبل فترة بسيطة قد وصل إلى 100 دولار تدنّى سعره إلى أقلّ من 20 دولار، إلى درجة أنّ بعض الدول المنتجة صارت تصدّر نفطها مجاناً حتى لا تتوقف منصات الإنتاج لديها عن العمل.
وعليه، اقترح الرئيس دياب أن يعمد لبنان إلى توقيع عقود آجلة لشراء كميات من الفيول، بمعنى أن يتمّ حجز هذه الكميات بالأسعار المتدنية حتى لو تسلّم لبنان هذه الكميات في وقت لاحق، لكن الأمر كان يحتاج إلى دفع حوالي 200 مليون دولار لشركات التأمين العالمية حتى تصبح العقود رسمية وموثقة ويتمّ تنفيذها في الآجال المتفق عليها. وكان يمكن أن يُعتمد هذا الأمر لسنوات عديدة وليس لسنة واحدة فقط شرط أن يدفع لبنان مسبقاً كلفة عقود التأمين.
طبعاً هناك بدائل وأفكار أخرى كثيرة كان يمكن اعتمادها، ولكن اعتماد هذين البديلين فقط كان من شأنه أن يوفر على الخزينة العامة نحو 7,5 مليارات دولار، (توفير 6 مليارات دولار من أموال الدعم وتوفير 1,5 مليار دولار من ثمن الفيول لمعامل الكهرباء) لكن مصرف لبنان رفض تسديد تكاليف التأمين وضيّع تلك الفرصة الثمينة جداً، والتي كنا من خلالها قادرين على وقف الدعم وتوفير المبالغ المطلوبة للبطاقة التمويلية، وكذلك كنا وفرنا على الخزينة المليارات التي صُرفت على الدعم الذي لم يصل منه إلى مستحقيه إلا القليل القليل…
هذه الوقائع والحقائق المثبتة بات الرأي العام يعرفها جيداً رغم كلّ محاولات التعمية التي صُرفت عليها ملايين الدولارات من أموال الناس، والتي لا بدّ أن يأتي يوم يُحاسَب فيه المرتكبون، سواء مَن دفع أو مَن قبض، وهم جميعاً معروفون بالوجوه والأسماء وببصمات أيديهم وعيونهم وأصواتهم.
ختاماً يبقى الأهمّ انتشال البلد والناس من هذا القعر، وهو الأمر الممكن مع حسان دياب وأمثاله من مدرسة الأوادم…
رمزي عبد الخالق ميدان برس