أوّل دخول نواب الحاكم : بين المصيبة والمصيبة الأكبر؟

الخبير المالي والإقتصادي أحمد بهجة كتب اليوم في جريدة الديار بعنوان : أوّل دخول نواب الحاكم : بين المصيبة والمصيبة الأكبر؟

لا يبشر بالخير ما قرأناه وسمعناه من معلومات ووقائع حصلت في جلسة لجنة الإدارة والعدل النيابية يوم الثلاثاء الفائت، والتي حضرها النواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان.
قبل الجلسة بأيام، وتحديداً في 6 تموز الحالي، كانت فكرة عامة قد تكوّنت في الأذهان عن هؤلاء من خلال البيان الذي أصدروه وحاولوا عبره التنصّل من المسؤولية التي سوف تُلقى على عاتقهم بموجب قانون النقد والتسليف عند انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في آخر شهر تموز الحالي.
هذه كانت الدعسة الناقصة الأولى لنواب الحاكم الذين عليهم تطبيق القانون بحذافيره وعدم تجاوزه على الإطلاق، والقانون يقول بأنّ عليهم اعتباراً من 1 آب المقبل تسلّم مقاليد حاكمية مصرف لبنان والقيام بمسؤولياتهم على أكمل وجه، لا سيما النائب الأول للحاكم الذي تنص المادة 25 من قانون النقد والتسليف على أنه يتسلّم بشكل كامل كلّ المهام المنوطة بالحاكم، فيكون حاكماً بالإنابة معه كلّ الصلاحيات وليس لتصريف الأعمال كما يخطئ البعض في حديثهم عن هذا الموضوع…
أما الدعسة الناقصة الثانية فكانت في جلسة لجنة الإدارة والعدل حيث ظهر نواب الحاكم كأنهم لا يعرفون شيئاً، لا عن الاحتياطي ولا عن الدعم ولا عن “اليوروبوندز” ولا عن القوانين. فضلاً عن أنهم حاولوا التنصّل من كلّ ما حصل في المصرف المركزي في الفترة السابقة بالقول إنّ الحاكم كان يتفرّد بالقرار وهم كانوا يعترضون على قراراته ولا يوافقون على ما يُعتمد من سياسات مالية ونقدية ومصرفية، وأنهم أبلغوا ذلك إلى الحكومة عبر وزارة المالية، حسب الأصول القانونية، بواسطة العديد من الكتب والمراسلات التي كشفوا عنها خلال الجلسة، وانّ الحكومة لم تكن تردّ على مراسلاتهم منذ أيام حكومة الرئيس حسان دياب!
حسناً… لماذا لم يعلن نواب الحاكم ذلك قبل اليوم؟ هم مخطئون جداً بلا شكّ إذا اعتقدوا أنّ إعلانهم اليوم أنهم اعترضوا في السرّ على ما كان يقوم به الحاكم علناً يمكن أن يجعلهم أبرياء في نظر القانون والناس… لأنّ تغاضيهم وسكوتهم عن كلّ تلك المخالفات والارتكابات يجعلهم شركاء فيها، سواء أرادوا ذلك أم لا…
والتناقض الأكبر الذي وقع فيه النائب الأول للحاكم الدكتور وسيم منصوري حين قال بإسم زملائه الثلاثة الآخرين “إنّ الجزء الأكبر من المسؤولية تتحمّله بشكل مباشر حكومة حسان دياب عبر ملف الدعم الذي صُرف عليه 30 مليار دولار”!
هذه مغالطة كبيرة جداً وقع فيها نواب الحاكم وخاصة أوّلهم أمام لجنة الإدارة والعدل التي ستعقد معهم جلسة ثانية لاستكمال المناقشات. وهنا لا بدّ من توضيح بعض الحقائق أولاً أمام اللجنة لكي تُسائل نواب الحاكم عنها وثانياً توضيحها أمام الرأي العام الذي لا بدّ من إطلاعه على الحقائق والوقائع كاملة.
يعرف الجميع بمن فيهم نواب الحاكم والنواب أعضاء لجنة الإدارة والعدل وسائر النواب والمسؤولين والمواطنين أنّ الحصول على معلومات واضحة ودقيقة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو أمر مستحيل، ورغم ذلك كان في صيف 2019 يصرّح على الملأ أنّ حجم الاحتياطي هو بحدود 30 مليار دولار، وقد تمّ يومها وضع بعض البرامج لدعم سلع معينة كالمحروقات والأدوية، مع استمرار ما كان قائماً من دعم منذ عقود للقمح والطحين والكهرباء، فضلاً عن دعم الليرة… وذلك بقرار من حاكم مصرف لبنان.
هذا كان قبل أن تتسلّم حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب مسؤولياتها وهي التي نالت ثقة المجلس النيابي في 11 شباط 2020، وكان الاحتياطي بحدود 22 مليار دولار في أواخر شباط 2020.
وقد بيّنت التحقيقات القضائية اللبنانية والأوروبية أنّ الـ 8 مليارات دولار التي نقصت من الاحتياطي بين صيف 2019 ومطلع 2020، أقرضها حاكم مصرف لبنان للمصارف بعد 17 تشرين الأول 2019 وقبل نيل حكومة الرئيس دياب الثقة، وفيما سدّدت المصارف هذه القروض لمصرف لبنان بـ “اللولار” تأكدَ أنها هرّبت الدولارات الحقيقية إلى حسابات في الخارج تخصّ أصحاب المصارف وأصحابهم من السياسيين ورجال الدين والإعلاميّين.
وحين تمّ توقيع مرسوم تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 10 أيلول 2021 كان حجم الاحتياطي 14,8 مليار دولار ما عدا حقوق السحب الخاصة (SDR) بقيمة 1,136 مليار دولار. وبذلك تكون قيمة الاحتياطي الإجمالي في 10 أيلول 2021 حوالي 16 مليار دولار في الوقت الذي كان الاحتياطي الإلزامي المطلوب في ذلك الوقت هو 14 مليار دولار.
أما عن قيمة الدعم للمواد الاستهلاكية فقد بلغت خلال فترة حكومة الرئيس دياب حوالي 7,6 مليار دولار (خلال 18 شهراً من بداية 2020 حتى حزيران 2021) من ضمنها كلفة الفيول للكهرباء وإدارة معامل الانتاج. وكانت حصة دعم السلع ما عدا ما يختصّ بالكهرباء حوالي 5,8 مليار دولار خلال فترة 18 شهراً. وهذا موثّق في كتاب مصرف لبنان الموجه الى وزير المال في تموز 2021.
في مطلع عام 2021 اقترح الرئيس حسان دياب الى رياض سلامة تمويل العائلات الفقيرة (٤٠٠ ألف عائلة) بقيمة ١،٢ مليار دولار من خلال البطاقة التمويلية على أن يتم إلغاء الدعم. وذلك كان سيوفر على الاحتياطي حوالي ال٦ مليار دولار سنوياً من خلال توقف الدعم وتمويل البطاقة التمويلية للفقراء. ولكن رياض سلامة رفض هذا الاقتراح في ذلك الوقت ولذلك كانت زيارة الرئيس دياب الى قطر الشقيقة في نيسان ٢٠٢١ لتأمين ذلك المبلغ.
اليوم (تموز 2023) تبلغ قيمة الاحتياطي كما صرّح رياض سلامة حوالي 9 مليار دولار (وهنالك تقديرات بأنّ المبلغ الحقيقي هو 7 مليارات دولار) وليس هناك أيّ كلام إعلامي عن تجاوز قيمة الاحتياطي الإلزامي سلباً، في الوقت الذي كان بعض الإعلام والإعلاميين يوجهون الكلام التهديدي بشكل مستمر خلال فترة حكومة الرئيس دياب (2020 ـ 2021) في حال انخفضت قيمة الاحتياطي عن 14 مليار دولار (أيّ الاحتياطي الإلزامي في ذلك الوقت).
علماً أنّ الموازنة العامة لسنة 2021 خلال فترة حكومة الرئيس دياب سجلت للمرة الأولى خلال 31 عاماً فائضاً نسبته 1,2% من الناتج المحلي حسب تقرير صندوق النقد الدولي.
هذه هي باختصار حقيقة أرقام الاحتياطي وكلفة الدعم الذي لم تقرّر حكومة الرئيس دياب السّير به كما لم تقرّر وقفه، كان الدعم ساري المفعول قبلها وبقي بعدها إلى أن قرّر حاكم مصرف لبنان وقف بعضه عن السلع الغذائية والمحروقات والأدوية… والاستمرار في بعضه الآخر، علماً أنّ منصة صيرفة نفسها لا تخرج عن كونها آلية دعم لليرة بشكل من الأشكال! هنا يجب الكلام عن القرار الخاطئ تفاقم تزايد الهدرمن خلال منصة صيرفة خلال ولاية حكومة الرئيس ميقاتي والذي من خلال هذه المنصة تم هدر المليارات من الاحتياطي في المصرف المركزي الذي ذهب الى جهات عديدة من اموال المودعين. فكان الاجدى للنائب الاول لحاكم مصرف لبنان ان يقف ضد هذه المنصة بدلاً من رمي المسؤولية على حكومة الرئيس دياب.
كذلك تحدثّ النائب الأول للحاكم عن مسألة التوقف عن دفع سندات الديون، والمقصود قرار التوقف عن سداد سندات “اليوروبوندز” في آذار 2020، وهنا يجدر التذكير ببعض المؤشرات المهمة التي توضح كل الصورة:
ـ صنفت وكالات التصنيف (ستاندرد أند بورز، موديز، وفيتش) سندات خزينة الحكومة اللبنانية على أنها (CCC) على بعد مستوى واحد من التخلف عن السداد في عام 2019 قبل فترة طويلة من استقالة الرئيس سعد الحريري.
ـ أغلقت البنوك أبوابها لمدة أسبوعين في تشرين الأول 2019، وحالت دون وصول المودعين إلى أموالهم، (وهو الأمر المستمرّ إلى اليوم).
ـ قيّدت البنوك سحوبات المودعين مبدئياً إلى 300 دولار شهرياً، وبعد فترة وجيزة الى 100 دولار شهرياً في العام 2019.
ـ ملاحظة مهمة أخرى، وهي الأهم، أنه بحلول أوائل عام 2020 (قبل حصول الحكومة الجديدة على تصويت البرلمان بالثقة)، كان يتمّ تداول سندات اليوروبوند بخصم حادّ على القيمة الاسمية (100%)، تمّ تداول سندات اليوروبوند ذات الاستحقاق لمدة عام واحد بسعر 79 سنتاً على الدولار وسندات الاستحقاق لمدة عامين بسعر 46 سنتاً على الدولار، وهو مؤشر سوق واضح على أنّ السندات كانت في حالة تعثر عملياً والتوقعات التي يخصّصها السوق لإمكانية وصول الحكومة اللبنانية إلى استقطاب الأموال هي صفر عملياً.
بعد كلّ ما تقدّم، وبعد اكتشاف “المواهب” الكامنة لدى نواب الحاكم الذين من المفترض أن نأتمنهم على ما تبقّى… وخاصة النائب الأول الذي نطق بأرقام خاطئة جداً حين قال إنّ كلفة الدعم بلغت 30 مليار دولار في أيام حكومة الرئيس حسان دياب بينما الحقيقة الثابتة والمؤكدة هي أنّ الكلفة بلغت 7,6 مليارات دولار، بما في ذلك كلفة الفيول للكهرباء وإدارة معامل الإنتاج.
هنا لا بدّ من طرح السؤال الكبير: هل فعلاً نواب الحاكم الأربعة لا يعرفون الحقائق، أم أنهم يعرفونها ويحاولون التعمية عليها من خلال اختراع وقائع وأرقام غير صحيحة لتحقيق الهدف الخفي الذي يريدون الوصول إليه وهو تمرير التمديد لـ “الحاكم” باعتباره “الأقدر” على إدارة المرحلة المقبلة بانتظار انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة الانتظام لعمل المؤسّسات؟
لا شكّ أنّ الجواب على هذا السؤال يقع بين المصيبة والمصيبة الأكبر!