طابور المرضى: من يصل أولاً يأخذ الدواء

كتبت راجانا حمية في الاخبار:

أربع ساعات قضاها الرجل السبعيني واقفاً عند مدخل توزيع الأدوية المركزي في الكرنتينا. يحمل حقيبة في يدٍ، ويسند في الأخرى تعبه إلى الحائط. هو هناك منذ الثامنة صباحاً ينتظر سماع صوت يناديه برقمه، لكنه لا يأتي. انتصف النهار ولا يزال يرقُب بصمتٍ هذا الصوت، وإن كان الخوف بدأ يكبر مع الاقتراب، ليس بسبب قرب انتهاء دوام عمل المركز فقط، وإنما لأن الثلج في الحقيبة بدأ بالذوبان، يتمتم العجوز في أذن الواقف على مقربة منه. هذا الثلج الذي كان من المفترض أن يضع فيه إبر علاجه من السرطان الذي يثقب رئته.

انتظار ما لا يأتي

هي ليست المرة الأولى التي ينتظر فيها الرجل في المركز، الذي صار يُعرف بين مرضى السرطان والأمراض المستعصية بـ«الكرنتينا»، فـ«كلما صار إليّ طريق لهون بجي». وفي الشهرَيْن الأخيرين، مع إضراب موظفي القطاع العام، اختُصر الطريق إلى الكرنتينا بيوم الأربعاء، اليوم الذي يداوم فيه موظفو المركز. لكن، حتى هذه اللحظة، لم تؤدّ كل الطرق إلى الدواء، فهو منقطع عنه «منذ أربعة أشهر»، يقول بحرقة.

مثله كثر ممن يقفون هناك في الطوابير بانتظار سماع من يناديه بحسب رقمه و«يفكّ الأسر»، يقول رامي الذي يحضر هو الآخر منذ ثلاثة أشهرٍ إلى المركز من أجل الاستفسار عن دواء العلاج لزوجته المصابة بسرطان الثدي. ومنذ تلك الفترة، لم يحظَ بحبّة واحدة من الدواء، «كلّ نهار أربعاء بجي بتفقّد». طوال فترة الانقطاع، كان رامي يشتري الدواء لزوجته من «أحد تجار الجملة بسبعة ملايين ليرة»، إلا أنّ الدواء لم يعد متوافراً لدى التاجر منذ شهرٍ تقريباً، «فصرت أطلبه من تركيا ويدفع ابني الذي يعمل في أفريقيا ثمنه». في كل مرّة (كل 21 يوماً موعد العلاج)، يطلب فيها من ابنه إرسال المبلغ لشراء الدواء الذي يعادل ثمنه بالدولار الأميركي 1700، كان يفكّر بأنه سيجبر ابنه على العمل «عاماً كاملاً كي يؤمن ثمن جلسات العلاج لوالدته». إلى الآن، اشترى الرجل الدواء لزوجته «ثلاث مرات على حساب ابني»، فيما الملف الذي يحمله من وزارة الصحة العامة للاستحصال على الدواء من مركز التوزيع في الكرنتينا لم يستعمله. ومع ذلك يبقيه معه «في حال طلعلي شي مرة».

المشهد في الكرنتينا

يصعب تشبيه طوابير الناس الواقفين أمام مركز توزيع الدواء في الكرنتينا بمشاهد طوابير أخرى مثل المازوت أو الخبز. فالوقوف هنا دونه «الأمرّان» لأن انقطاع حبة الدواء يؤدي إلى تراجع حالة المريض الصحية وصولاً إلى احتمال موته، خصوصاً أن السرطان يجدّد خلاياه كل 21 يوماً. كما أن الوصول باكراً إلى مركز الكرنتينا والحصول على رقم لا يعنيان الحصول على الدواء، ففي كثير من الأحيان «يفيدك الرقم في السؤال عن الدواء إن كان موجوداً أو لا»، بحسب مصدر في المركز. أما إذا حالفك الحظ وكان الدواء موجوداً، فلا يعني وصول دورك الحصول عليه حكماً، على قاعدة أن «من يحضر أولاً هو من يحصل على الدواء»، يضيف المصدر.

يعود ذلك للاقتصاد في التوزيع، وإنما لضآلة الكميات الواصلة من أصناف الأدوية التي يقارب عددها الـ300 صنف. وتُقدّر نسبة الأصناف المتوافرة في المركز بـ40%، ما يعني أن هناك 60% من أصناف الأدوية لا تزال مفقودة. أضف إلى ذلك أن الدواء الذي يصل لا يغطي الحاجة الفعلية للمركز ولا حتى للمرضى، «خصوصاً أن معظم وصفات المرضى الطبية تتضمّن أكثر من دواء، وهذا ما يصعّب الأمر».

ولا تعني الـ40% أنها النسبة «الصافية»، فما يصل فعلياً، بحسب المصدر «40% من الـ40%»! ويعود ذلك إلى جولات تفاوضٍ، غير ملزمة، ما بين وزارة الصحة العامة وبين شركات استيراد الدواء، تطلب بموجبها الأولى تخصيص 40% من الأدوية التي تستوردها الشركات لمركز التوزيع في الكرنتينا. وهي نسبة غير ثابتة، وغالباً ما تأتي «بالمَوْنة»، إذ من الممكن أن تكون الكمية المستوردة أقلّ، فتكون عندها النسبة أقلّ، تقول المصادر.

وعلى قاعدة «جود من الموجود»، تُقسّم هذه النسبة ما بين 50% لمركز التوزيع- الكرنتينا، بعدما بات بإمكان المرضى اليوم أن يتسلّموا بحسب مراكز سكنهم، و50% أخرى تُوزّع ما بين المراكز في المناطق، لا بالتساوي «وإنما بحسب كبر وحاجة كلّ مركز وعدد المرضى». وهذا دونه عائقان أساسيان، أوّلهما أنه «يضع المركز الرئيسي في منافسة مع البقية»، وثانيهما هو ما يلحق ذلك من صعوبة «في توزيع الـ50% المتبقّية على المراكز».

أما أسوأ ما في درب الجلجلة هذا، فهو أن الدواء الذي يفرغ من المراكز «لا أحد يعرف متى يصل مجدّداً»، وفي هذه الحالة، يضيفه العاملون هناك إلى لائحة الأدوية المفقودة.