قطاعٌ جديد يسقط!

كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:

تيقّن المودعون بتعاظم خسائرهم في المصارف مع كل إشراقة شمس منذ استفحلت الأزمة المالية والنقدية، ما دفعهم إلى هجمة غير مسبوقة لتحويل «لولاراتهم» إلى «قوالب إسمنتية». فوصل عدد البيوعات العقارية في نهاية العام 2020 إلى ذروته. الفورة التي أنقذت القطاع بعد سنوات من التباطؤ شارفت حد الشلل في العامين 2018 و2019، لم تدم طويلاً. فعاد الجمود يخيم فوق القطاع متغذياً من صقيع استمرار انهيار سعر الصرف، وفقدان الأمل بعودة الودائع، وإصرار الحكومة على إغراقه بالضرائب والرسوم.

 

«بدأ المودعون في العام 2020 شراء العقارات من شقق وأراض بشكل هستيري»، يقول الخبير العقاري أحمد الخطيب. «ساعدهم في ذلك وجود مخزون كبير عند المطورين العقاريين، وقبول المصارف بتسكير ديونهم بحوالات وشيكات مصرفية». عمليات بيع وشراء العقارات في هذا العام التي وصلت بحسب الدولية للمعلومات إلى «82 ألف عملية، بقيمة 14.4 مليار دولار» عادت للتباطؤ بعد نهاية الفصل الأول من العام 2021. وقد «اقتصرت عمليات البيع على بعض المطورين المضطرين إلى تسوية أوضاعهم مع المصارف، والذين لم يزالوا يملكون فائضاً في مخزونهم»، بحسب الخطيب. و»مع نهاية العام 2021 انهارت قيمة الشيك المصرفي، ولم يعد يساوي أكثر من 25 في المئة، فيما المطورون العقاريون الذين سددوا ديونهم لم يعد يهمهم البيع مع حسم، وأصبحوا يطلبون التسديد بالعملة الصعبة. أما حاملو الدولار النقدي فبدأوا يفاوضون على الشراء بحسم 70 و80 في المئة. فتوقفت عمليات البيع، ودخلنا بشلل تام».

 

هذا التناقض الذي ارتد سلباً على صفقات البيع والشراء، «انعكس إيجاباً على سوق الإيجارت الذي شهد تحسناً ملحوظاً في مؤشر العائد على الاستثمار ROI، فارتفع من 0.5 في المئة إلى 1 و1.5 في المئة، وخاصة في المناطق المميزة»، بحسب الخطيب. «مع العلم أن هذا الواقع ينطبق بشكل عام على كل لبنان، وبشكل خاص على مدينة بيروت الكبرى بما فيها «سوليدير» والواجهة البحرية ومحيط بيروت وجبل لبنان».

 

الاسعار تتراجع إلى النصف

 

أمام هذا الواقع تراجعت أسعار العقارات في بعض المواقع بنسبة وصلت إلى 50 في المئة. فالشقة التي كانت تباع بـ 200 ألف دولار، أصبح بإمكان من يحمل الكاش دولار شراءها بـ 120 ألفاً وربما أقل. بيد أن هذا لا يعني من وجهة نظر الخطيب «خسارة من بادلوا مدخراتهم المصرفية بالعقارات مرتين. فالخسارة في العقار مهما كانت كبيرة تعوض مع مرور السنوات بشكل تلقائي، فكيف إذا صاحب هذه السنوات تحسناً في الوضع الاقتصادي. ومما يزيد من هذه القناعة هي ندرة الأراضي في لبنان، وارتباط تطوير العقار بما يعرف بـ «تكلفة الاستبدال» REPLACEMENT COST. فالذي يعتبر أن سعر 3000 دولار لمتر البناء على الرملة البيضاء مرتفعاً، لا يستطيع توفير أرض للبناء عليها والبيع بسعر أرخص».

 

خروج الدخلاء

 

التصحيح الحقيقي الذي شهده قطاع العقارات لم يكن في الأسعار، إنما في خروج الدخلاء من السوق. فقبل الأزمة تحول من يملك رأسمال أو يستطيع الوصول إلى قرض مصرفي كبير إلى مطور عقاري. هذه الفئة خرجت من السوق»، بحسب الخطيب. و»ستستمر فئتان في مجال التطوير العقاري: الاولى هي التي تملك الارض وتنوي التشييد للاستفادة من تراجع الاكلاف. والثانية وتشمل المطورين الذي يتشاركون مع ممولين مغتربين من الخارج. لكن بدون أدنى شك فان عمليات إنشاء مبان ومجمعات سكنية وتجارية التطوير سيتراجع إن لم نقل يتوقف بالنسبة للأشخاص الذين لا يستطيعوا التشييد من دون الحصول على الدفعات المسبقة من المشترين. وبشكل عام فان القطاع أصبح مكشوفاً على المخاطر المستقبلية. ومن هذه المخاطر مثلاً إمكانية فقدان اليد العاملة الرخيصة في حال بدأت مرحلة إعادة إعمار سوريا. ولكن مع هذا فان الخطيب يملك قناعة بان التطوير لا يمكن أن يتوقف كلياً فبعض المطورين المقتدرين سيستمرون في التشييد والبناء ولو بوتيرة أخف لاعتقادهم بان ما يمر به لبنان فرصة سيستفيدون منها في المستقبل.

 

الضرائب والرسوم

 

معاناة القطاع العقاري وما يرافقها من مخاطر على الأمنين الاجتماعي والاقتصادي، لم تردع الدولة من تسليط سيف الضرائب والرسوم عليه في موازنة 2022. فلم تلتفت إلى أن هذا القطاع يؤمن السكن باعتباره أحد أهم حقوق المواطن، ويشغل أكثر من 75 مهنة ومصلحة وعشرات آلاف العمال في مختلف الاختصاصات… فأثقلته بالمزيد من الاعباء. حيث تضمنت موزانة العام 2022 مجموعة كبيرة من الضرائب والرسوم، منها:

 

1- ضريبة بنسبة 50 في المئة من صافي الايرادات المقدرة على العقارات الشاغرة لأكثر من عامين. وهو الأمر الذي سيحد من رغبة المطورين من بناء الشقق والمساكن ولن يشجعهم على البناء والبيع بأسعار رخيصة كما يأمل معدو الموازنة. وسيؤدي إلى خسائر هائلة في المجمعات التجارية التي فقدت أكثرية مستأجريها وسيدفع بعضها إلى الإقفال.

 

2- تخفيض قيمة تنزيل الضريبة على الأملاك المبنية من 13200 دولار إلى حدود 2000 دولار.

 

3- زيادة الرسوم على الاشغال الطبوغرافية بحوالى 18 ضعفاً في المادة.

 

4- زيادة الرسوم لدى السجل العقاري من 4 أضعاف إلى 25 ضعفاً.

 

هذه الضرائب المفروضة في غير مكانها وزمانها حولت «الموازنة إلى عملية محاسبية لا تتضمن أي بعد تنموي ونهضوي للقطاع العقاري»، بحسب نائبة رئيس جمعية المطورين العقاريين ميراي القراب أبي نصر، «فاتت عملية تجميع أرقام على الورق لتغطية النفقات الكبيرة، بغض النظر عن كلفة هذه الزيادات على القطاعات الانتاجية والخدماتية والاقتصاد».

 

من استطاع تهريب ودائعه من «قفص» اللولرة علق في «فخ» استيفاء رسوم التسجيل على سعر منصة صيرفة. ولا سيما من أخرج كل أمواله بشيك مصرفي واستثمر في مشروع قيد الانجاز أو شارف على الانتهاء»، تقول القراب. «إذ سيضطر إلى دفع 6 في المئة من قيمة العقد على سعر منصة صيرفة. وهو مبلغ يقل قليلاً عن سعر العقار، إذا أخذنا في عين الاعتبار نسبة الاقتطاع الكبيرة من الشيك المصرفي. فالتسجيل لشقة بقيمة 100 ألف دولار أصبح يكلف 120 مليونا بعدما كان 6 ملايين ليرة. والمصيبة أن أغلب العقود كانت بالدولار والمشترين لا يملكون المال للتسجيل».

 

فقدان قاعدة البيانات

 

في العام 2018 ومع توسع ظاهرة تملك العقارات بوكالات بسبب ارتفاع كلفة التسجيل على المواطنين، صدر قانون يقضي بتسهيل تسجيل العقارات، وإعطاء فترة سماح لمدة عام لكل من يملك عقد بيع ممسوح لتسجيله. وبالاضافة إلى قوننة الملكيات، فان القانون قدم البيانات الحقيقية للقطاع وأتاح للمطورين والمراقبين دراسته وتقييمه. «كما أنه أفسح المجال لاجراء الاصلاحات الضرورية ووضع خطط تطويره والنهوض به»، من وجهة نظر القراب أبي نصر. «ذلك انه من دون قاعدة بيانات يبقى القطاع المقدر حجمه بمليارات الدولارات كالشبح قائم على التكهنات. اليوم، ومع عدم القدرة على التسجيل ستعود المشكلة الجديدة القديمة نفسها. وهي إن كانت مشكلة إدارية بحت بحسب القراب أبي نصر، «فان عدم قدرة المواطنين على تسجيل ممتلكاتهم ستخلق إرباكات كبيرة على أرض الواقع». فالكثيرون سيعجزون عن استلام شققهم. والبائعون سيطمحون إلى اعادة استرداد العقار، وسندخل في دوامة من فوضى الدعاوى والمحاكم. وبالتالي فانه من واجب السلطة التنفيذية اليوم برأي القراب أبي نصر «النظر إلى القطاع بعين المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية، وليس بـ»فم» الخزينة المفتوح لامتصاص كل ما ينتجه بالضرائب والرسوم. وعلى الحكومة أن تصدر مرسوماً تطبيقياً يتضمن استثناءات بالتسجيل على كل العقارات المشتراة، التي تعود إلى مشاريع مرخصة قبل العام 2019 ولم يستلمها أصحابها، وأن لا يطبق عليها قيمة التسجيل الجديدة، وأن يعطى أصحابها على الأقل مهلة سنة لتسوية أوضاعهم. فالتسعير بحسب سعر السوق سيحدث آجلاً، إنما عاجلاً يجب أن لا تتم العملية بين ليلة وضحاها حفاظاً على أمن المواطنين الإجتماعي وحقهم بالسكن».

 

محرك النهوض

 

القطاع العقاري الذي شكل ما يقرب من ثلث حجم الناتج المحلي الاجمالي في العام 2019، بامكانه النهوض بالاقتصاد إذا أعطي الاهتمام، كما ويمكنه كسر الاقتصادي وخلق انفجار اجتماعي في حال إهماله»، برأي القراب أبي نصر. و»الخطورة المحدقة به اليوم تتمثل بعدم وجود مشاريع عقارية جديدة، ولا أخرى تلوح في الأفق. وبالاضافة إلى إثقال القطاع بالضرائب والرسوم وعجز المواطنين عن الشراء والتملك على الصعيد الداخلي، فان أسعار مواد البناء من حديد وأخشاب ولوازم أولية تشهد ارتفاعات كبيرة وكلفة النقل والشحن تزداد بنسب كبيرة. وعليه فانه بسبب تراجع الربحية إلى حد انعدامها تتوقف عمليات التطوير العقاري وتتراجع معها قدرة الأفراد على السكن والمؤسسات الانتاجية على التوسع والانتشار. وهذه عوامل مهدمة للاقتصاد».

 

«قبل توحيد سعر الصرف واعتماد الحل الشامل فان القطاع العقاري سيبقى قابعاً في زاوية الجمود منتظراً البدء بالاصلاحات»، تقول القراب أبي نصر، «ومثل كل القطاعات الخدماتية والانتاجية فان الانطلاق بالاصلاحات العامة والشاملة هو المنقذ، ولا حلول بالمفرق ممكن أن تفيد مستقبل هذا القطاع».