تفاوتت المقاربات الداخلية لإعلان الرئيس سعد الحريري عن تعليقه العمل السياسي وانسحابه من الانتخابات النيابية، وهو قرار لم تقتصر مفاعيله عليه شخصيا بل شملت أيضا تيار المستقبل الذي أصبح “خارج الخدمة” كإطار تنظيمي وإن كان بعض قيادييه وكوادره سيحاولون البقاء على قيد الحياة السياسية بصفاتهم الشخصية.
ومن بين الاستنتاجات المتعددة يبرز إتجاهان:
الاول، وجد في قرار الحريري شجاعة استثنائية لانه من غير المألوف ان يقفل زعيم لبناني بيته السياسي بنفسه وان يعتزل عن سابق تصور وتصميم سلطة كان أحد اركانها وثوابتها، والتجارب تثبت عبر التاريخ القريب والبعيد ان الزعماء عندنا لا يغادرون “عروشهم” بالطريقة التي غادر بها الحريري.
أصحاب هذا الرأي يعتبرون أيضا انه يسجل للحريري انه فضّل الانسحاب الكلي على أن ينفذ أجندة ليست لديه القدرة على تطبيقها ومن شأنها ان تقود البلد الى حرب أهلية سعى منذ دخوله المعترك السياسي الى تفاديها.
والمصفقون لخيار الحريري بالابتعاد يقدرون له كذلك انه قرر اعطاء فرصة لبدائل غير مستهلكة وأظهر حرصا على مراعاة المزاج الشعبي العام التواق الى التغيير والتخلص من الطبقة السياسية التي يحملها اغلب اللبنانيين المسؤولية عن الانهيار الكبير.
وفي رأي المتفهمين لرئيس تيار المستقبل “المعلق” ان الرجل ضحى بنفسه وتياره حتى لا يكونان وقودا لفتنة تحرق الاخضر واليابس، وانه بطبعه وطبيعته رجل تسويات لانه يعرف ان لبنان المتنوع والمعقد لا يُحكم الا بالتسوية ولو انه دفع ثمنها غاليا في مراحل عدة وصولا الى إنكفائه الكلي.
لكن هناك في المقابل اتجاه آخر في تفسير موقف الحريري يدعو الى وضع انكفاء الرجل ضمن سياقه الأصلي بعيدا من المبالغات الإنسانية والعاطفية في قراءة دلالاته ومعانيه.
بالنسبة إلى أصحاب هذا الطرح، لا يمكن فصل خروج الحريري من اللعبة الداخلية عن قرار سعودي صارم باستبعاده وقطع كل أنواع الاوكسيجين عنه، وبالتالي فإن الحريري خضع الى الارادة السعودية التي تريد الدفع نحو اقصى المواجهة مع حزب الله، وهو الأمر الذي كان يتطلب نفي رئيس “المستقبل” وتياره الى خارج المعترك السياسي، بحيث أصبح الحزب على تماس مع واقع سني مشرع على كل الاحتمالات ومن بينها احتمال تصاعد التطرف الديني او السياسي، خصوصا ان البيئة السنية فقدت الآن ضابط الإيقاع الذي نجح في تثبيت معادلة ربط النزاع مع الحزب خلال فترة قيادته للتيار.
بهذا المعنى، فإن حزب الله خسر الشريك السني في الستاتيكو السياسي – المذهبي الذي ساد خلال السنوات السابقة تحت سقف تنظيم الخلاف ومنع الفتنة. وخسر الرئيس نبيه بري أيضا الشريك في توازنات النظام وتسوياته، الأمر الذي سيؤدي الى اختلالات في مجمل اللعبة السياسية وقواعدها التقليدية.
ويعتبر أنصار هذه القراءة ان انسحاب الحريري ليس نتيجة صحوة ضمير او كرم اخلاق لافساح المجال أمام تجارب جديدة، بل هو انسحاب قسري وإلزامي فرضته بالدرجة الأولى الحسابات السعودية التي يشكل الحريري تفصيلا فيها، مضافا اليها الإفلاس المالي الذي زاد ضعفه ضعفا.
ووفق هؤلاء، انتهت “وظيفة” الحريري في هذه المرحلة، لانه من الأساس هو “وافد” الى الحياة السياسية في لبنان وليس جزءا بنيويا منها، وبالتالي لم يكن مستحيلا بالنسبة إليه ان يلملم أغراضه وينتقل الى “الإقامة الذهبية” في ابو ظبي ليبدأ هناك من الصفر مجددا، تاركا خلفه قواعد شعبية مصدومة وطائفة قلقة.
ويرجح المقتنعون بهذا الاستنتاج ان يكون عزوف الحريري هو الحجر الأول المتهاوي الذي سيليه تدحرج متدرج لباقي أحجار الدومينو.
هل ما فعله الحريري هو أنانية مفرطة ام نكران للذات؟ هذا ما سيكشفه “المستقبل.”