ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
قبل نحو عام، قال رئيس الحكومة العراقية السابق حيدر العبادي، أن 5000 سعودياً فجّروا أنفسهم في العراق. طبعاً قصد وعلى نحوٍ واضح، تنفيذهم لعمليات انتحارية لمصلحة كل من تنظيمي “القاعدة”و”داعش” وأخواتهما، ومن دون أن يحصر “الكمية” بمدة زمنية معينة.
طبعاً حينها لم تقم الدنيا ولم تقعد. لم تبادر الرياض إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع بغداد وتطرد سفيراً أو تسحب آخر، كما وأنها لم تغلق حدودها أو تتهجّم على مكوّن عراقي أصيل. لم يخرج السعار السياسي من بلاد الرافدين معترضاً على تصريح رئيس الحكومة ولم تغرق الصحافة بتصريحات الشجب والادانة. قال العبادي كلمته ومشى، فيما اكتفت الرياض بمحاولة للدفاع عن نفسها بأنها تخلت عن “بثّ” الدعاية الوهابية.
المسألة ببساطة أن في العراق مؤسسات رغم ضحالة العمل السياسي والعامل الأمني. هناك نموّ للمشاعر الوطنية، وهناك والأهمّ، حقائق وليس تدليس، أقلها عندهم –أو كان عندهم- رئيس حكومة ينطق بالحقيقة، ولم يكن لديهم رئيس يعتبر أن قبلته السعودية، ومن بعده الطوفان.
في مقابل نموّ المشاعر الوطنية في العراق، نشهد في لبنان على حالة من التفلت الوطني تتمثّل بازدهار سوق المصالح النفعية مع دول الخليج والسعودية تحديداً، وعليه وفي الظرف المماثل تتراجع المشاعر ويحلّ مكانها منطق “التحريف” المطلوب من أجل إخفاء الحقائق وطمسها. ولا ريب أن هذا “البزنس” أوجد لتلميع الصورة لقاء توظيف الأموال! وأنا عن نفسي أجزم بأن المال يدفع لهذا الغرض كنسخة مكرّرة عن “الطقس الهوليوودي” الذي يذرف عليه المال من أجل تلميع صورة المحتلّ.
في لبنان يُتهم “حزب الله” بأنه يحتلّ هذا البلد، وأمينه العام، بأنه يُمارس سطوته في مجالات السياسة والأمن، ويرفع من حضور حليفته طهران، بينما يُسدل الستار على احتلالٍ من نوع آخر يقوم وينشط بحرية ويتمثّل بجماعات مختلفة تحتلّ الشاشات ومواقع التواصل والمنابر والمواقع السياسية والأمنية، الإقتصادية والقنصلية والدبلوماسية، العمائم والأديرة والصروح الدينية وصولاً إلى بوابات المقارّ والقصور وزواريب الأحياء، فضلاً عن احتلالهم للعقول والألسنة وينشرون التلوث السمعي والبصري أينما كان، و يتعمدون إخفاء الحقائق وتشويهها، كمثل نزع أي علاقة للسعودية بنشر الأفكار السلفية الجهادية الموروثة عن المدرسة الوهابية التيميّة التي نشرت فروعها من باكستان إلى آخر بقعة في أفريقيا إلاّ في الغرب الأميركي تحت شعار قتال الروافض والنصارى ودخول الجنّة خلف “كتيبة” من الحور العين!
وإذا كان هذا الإحتلال مفهوماً بظروفه وأهدافه طالما تُصرف الأموال عليه تحت مهمة إجراء عملية “كي وعي” وطمس الحقائق، فإن تجهيل بعض رجالات السياسية من اللبنانيين، من رسميين وغير رسميين، الذين يفترض أنهم “متحررين”، لفعل من هذا النوع ولحقائق معروفة وثابتة وراسخة مذكورة في مجالات متعددة من كتب وغير ذلك وفي شواهد كثيرة من أفلام وغيرها، لهو قمّة في الرياء والتخلي عن أبسط مقومات السيادة والروح الوطنية.
في العودة إلى السياسة، فلا بدّ أن التصرف الأخير لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يندرج ضمن سياق إخفاء المعلوم وطمس المذكور. عملياً، يبدو الرئيس ضائعاً في التوصيفات حدّ التناقض. ففي وقت يرفض إزالة صفة “لبنانية” حزب الله ويحرص على منحه طابع التمثيل اللبناني الصريح ذات مرّة والتي ربما أتت في مقام “محاباة” الحزب كسباً لغرض سياسي ما، يقوم في المقابل ولهدف آخر ومتى تغيّرت الظروف ولأجل إرضاء الآخرين بنزعها عنه، حين قال في بيان الدفاع الشهير عن الملك السعودي في أعقاب كلام السيد نصرالله: “نحن ننادي بأن يكون حزب الله جزءاً من الحالة اللبنانية، ولبناني الإنتماء”.
لا بدّ أن الحزب الذي يستهجن ولا محال، تقلّبات ميقاتي وضياعه في المصطلحات، وقف مستهجناً حين جلس الطير على رأس دولته، ساعة طالته نيران الملك السعودي في خطاب ملؤه تحريض على الحزب الممثل في البرلمان حتى ختمه بدسّ عبارة إرهاب ونعت الحزب بها، أي الحزب عينه الذي ساهم والفرنسيين بإيصال دولة الرئيس إلى السراي، والممثل في الحكومة، الذي يحوز على ما يربو عن 400 ألف صوت حصدها في انتخابات 2018.
وما دام الأمر كذلك، لماذا يطالب الحزب بتقديم تنازلات في السياسة والأمن وفي العودة إلى الحكومة؟
عملياً، يبدو أن حزب الله قد وصل إلى قناعة أو يكاد ، مفادها بأنه لم يعد في إمكانه أو هناك جدوى، للسكوت عن التصرفات السعودية تجاه لبنان أو من سماع نصائح بعض الساسة المحليين، والتي تقوم على ثقافة: “دعنا نعطيهم هذا الشيء فنردّهم عنا”. في الواقع، منحوا من لبنان إستقالة الوزير جورج قرداحي وقبلها بلاغات حول إرساليات الكبتاغون التي تشحن إلى المملكة، فماذا كانت النتيجة؟ لم تتخذ الرياض أي خطوة إيجابية تجاه لبنان أو تقوم بأي رد فعل حسن كفتح الحدود مثلاً مقابل التنازلات التي قدمت. جلّ ما مُنح إلى رئيس الحكومة، كان عبارة عن “إتصال” مدته 30 ثانية بولي العهد السعودي، وكفى الله المؤمنين شر القتال!
في الواقع، وهذه قضية من الضروري لفت النظر إليها، أن السعودية قد أخلّت بالوعد الذي مُنح إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته إلى الرياض والقائم على المشاركة في “تحسين الظروف اللبنانية”. فمن جهة، تعمل الرياض على زيادة حالة الفراق الشعبية و تعميق الفجوة السياسية من خلال اختلاق قضايا خلافية بشكل دوري على شكل شريط الفيديو الملفّق والذي يتهم قيادياً من الحزب بإصدار توجيهات إلى قيادي عسكري يمني بضرب السعودية، ومن جهة أخرى تعرقل وصول المساعدات التي اتفقت والجانب الفرنسي على تسهيلها. وفي مقابل ذلك كله تتعمّد “تسعير” الخطاب السياسي الداخلي من خلال العمل على استنهاض أصوات سياسية وتوظيفها في مواجهة الحزب، ما ينعكس سلباً على حالة الإحتواء السياسي الداخلي ويؤجّج المشاعر الداخلية بين صنوف الشعب اللبناني.
هنا، ماذا يفعل الرئيس نجيب ميقاتي المشارك في دوره بتسعير الحملة السعودية والباحث عن تحرير حكومته؟ لا شيء سوى تقديم التنازل تلو الآخر إلى الرياض، من دون تحقيق مكسب لبناني واحد!