“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
بات من شبه المحسوم أن أسهم الرئيس سعد الحريري، قد هبطت في سوق المداولات السعودية إلى ما دون الصفر، وليس هناك من مبادرة لاعادة احياء ارصدته، ويبدو أن الرجل أقرّ بافلاسه ويتعامل مع هذا الواقع في ظلّ استعاضته عن الرياض بعاصمةٍ أخرى يسعى منها لمعاودة الإنطلاق مجدداً في رحلة “البزنس”.
طبعاً، الخيار “المكره” الذي يعتمده الحريري، يحتاج إلى عدة ترتيبات ولتنظيم الكثير من التفاصيل، منها ما هو على صلة بحياته الشخصية أو السياسية، دون أن يغادر الرجل طبيعة علاقته مع المملكة، ففي النهاية يحوز جنسيتها.
ثمة في الداخل من يعلن ومن دون تحفظ، أن ما تريده الرياض من سعد الحريري، هو الخروج من الحلقة السياسية نهائياً، لكن لذلك تداعيات أبرزها وضعية الطائفة السنية التي يمثّل، وتياره والموقع الذي يشغله ربطاً بكونه نجل رفيق الحريري. كلّ ذلك مفهوم بالنسبة إلى السعودية. فصحيحٌ أن الطائفة السنية ستدخل في مخاضٍ عسير وذلك مقدور على تمريره ولو شابه بعض الضجيج، طالما أنه سيجري تعويضها لاحقاً، لكن الصحيح ايضاً أن التحويل لا يعني ألا يكون العبور مكلفاً، ففي النتيجة نحن نتحدث عن إعادة تدوير للحالة السياسية السنية على نحوٍ عنيف. وعلى الرغم من ذلك كلّه، يؤكد أكثر من طرف، أن السعودية لم تخرج من آل الحريري بعد، على اعتبار أن الوريث المقبل للحالة لا بدّ أن يكون حريرياً.
النقاشات التي تدور على هامش الإستحقاق النيابي، توحي بكثير من تلك الأجواء المشحونة. صحيح أن الرئيس سعد الحريري لم يتخذ قراره الحاسم بعد في انتظار عودته المفترضة إلى لبنان والتي يُحكى أنها ستكون خلال الشهر الجاري، لكن جانباً ممّا يحصل، يُظهر أن الرجل أصبح عملياً خارج محور الحركة السياسية اليومية، بدليل اعتكافه الظاهر عن التعاطي بأي قضية ذات صلة، وهذا الفعل إنما يضعف من وجوده ودوره، ولا بدّ أن الحريري هنا، وبالشيء الذي يحصل معه، قد يكون أقرب إلى شخص مرغم على فعل ما يفعله.
بداية، تشهد حلقات النقاش المستقبلية وتلك التي يجريها الحريري من خلف الحدود، على التباينات الظاهرة في تيار “المستقبل” إلى جانب الإرباك الذي يعصف به. فمن ناحية ينمو اعتقادٌ أن رئيس الحكومة السابق سيخرج خاسراً من هذه المطحنة إن شاء ألا يعبر معمودية الإنتخابات، وهو ما يتفهّمه و يحسبه جيداً. إلى جانب ذلك ثمة نظرية مقابلة تشير إلى “مكاسب” قد تتحقّق من وراء الانكفاء، سيّما أن الدولة هشّة وتتلاطمها الامواج، وبهذا المعنى قد يجد الحريري متسعاً من الوقت لكي يعمل على استنهاض قواعده. لكن كيف يحدث ذلك فيما الحريري غائب عن السمع، وثمة من بات يشبّه وجوده بوجود شقيقه بهاء المتهم بأنه يدير عملية سياسية عبر الـ”ريموت كونترول”. هذه المعضلة أيضاً يتفهّمها الحريري وتزيد من تشتّته.
عملياً، ووفق اعتقاد أكثر من مصدر، لم تخرج السعودية من الحالة التي نشأت في أعقاب استقالة الحريري من الرياض عام 2017، كذلك لم يخرج الحريري نفسه منها بعد، ولهذا نشهد على التأثيرات البالغة التي تلاطمه سياسياً، ويظهر انعكاسها عليه بدقة. فالحريري يعلم بل وأدرك أن القرار بالإطاحة به قد اتُخّذ فعلاً، وأن المحاولات التي أجراها لتعديل الصورة في السعودية لم تفلح، وبالتالي هل “نخّ” أمام الرياح السعودية؟
يبدو نعم. فوضعيته السياسية والتنظيمية الحالية، تشير إلى احتمالٍ كبير بحدوث ذلك، ومشهد إزاحته من الواجهة عام 2017 يعود بشكل أعنف عام 2022 وإنسجاماً مع نفس الأهداف، لكن وفق شكل مختلف. فما لم ينجح في إتمامه عام 2017 والحديث حول “تنصيب” الوريث البديل عبر سلوك منهاج الفوضى والبيعة، يبدو قابلاً للحدوث الآن، بدليل انكفاء الحريري وتقدّم شقيقه الذي بات يؤسّس إلى حالته الخاصة، مستفيداً من القرار بـ”تجميد” حركة شقيقه.
عملياً، لا قدرة لسعد الحريري على مواجهة الخيار السعودي، وهذا بات ثابتة خارج النقاش، لعلمه أن القضية باتت أكبر منه وتتصل برؤية المملكة ومصالحها السياسية المستقبلية في الداخل اللبناني، وبالتالي إن ما دون عام 2017 من قبيل إخراج سعد الحريري من المشهد، يعود اليوم، وبالتالي ليس غريباً أن الحريري قد أقرّ بأنه قد انتهى سعودياً بالمعنى السياسي، لذلك يعمل على المحافظة على حدّ أدنى موجود بالمعنى الشخصي ومن قبيل حفظ الذات، و لأنه يعلم أن الرياض باتت في صورة اختيار البديل عنه، البديل السني على وجه التحديد والذي لن يكون فردياً بمعنى “تعيين” زعماء على مناطق، وإنما شاملاً بنفس معاني ومعايير تمثيل الحريري ذاتها، وعليه يصبح مرورها في الحقل المسيحي حالياً مجرد عبور لملء الفراغ.
في هذا الوقت، ينشط الحريري في محاولة ملء الفراغ لدى تيار “المستقبل”، والذي أحدثه غيابه عبر استقدام خدمات رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، في محاولةٍ منه للإبقاء على “الضخّ” موجوداً، ولأن “المختار” لا يشكل إزعاجاً للرياض، بل قد يعتبره الحريري شخصاً يصلح لتأمين “تقاطع” معها ويحافظ على الحدّ الأدنى اليسير من “المستقبل”، في مواجهة زحف شقيقه بهاء، بحيث ظهر مؤخراً أن السنيورة عاد ليتحرك في المساحة السياسية المتاحة له بحرية اكبر، ولعلّه يتمكن من تنظيم صفوف فريقه السياسي.
قضية عدم إعلان الحريري رغبته في دعم أي مرشح، أي القضية التي سرُّبت عبر الإعلام، واحتاجت إلى تدخلات من قبل نواب “المستقبل” بناءً على إيعاز من الحريري نفسه لصدّها، تشير إلى المعادلة السياسية التي بات الرجل اسيرها، الذي ربما يعتقد أن عليه “ديناً سياسياً” يجب تسديده. تلك الحالة لا بدّ أنها جزء من دفعة على حساب ابتعاده السياسي. كان في متناول الحريري أن يزكّي أي مرشّح عبر ابتداع فكرة أن كل واحد منهم مسؤول عن تأمين موارده المالية وماكينته وكلّ ما له صلة بالانتخابات، إلاّ أن الحريري احتجب عن ذلك، وإحتجابه يتصل بظروفه السياسية، أي بمنطق الإبتعاد الذي يُكرسّه حالياً، بمحدودية سقف خطابه وتدخله السياسي، المحصور بمحادثات عبر مجموعة “واتس آب” نواب تيار “المستقبل” حصراً.