كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
من طرابلس عاصمة شمال لبنان، تنقل إحدى معلمات مدرسة ابن خلدون الرسمية في منطقة أبو سمرا، روايات مبكية، عن تلامذة ما دون السنوات العشر، يحضرون الى المدرسة دون «زوّادة»، موضحة أن أحدهم فقد الوعي، بينما كان واقفاً أمام السبورة لحل مسألة حسابية، بسبب سوء التغذية.
وإثر هذه الحادثة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي دعوات لإضراب المدارس، وإعلان حالة الغضب الشعبي، والنزول إلى الشارع، وقطع الطرقات، احتجاجاً على تدهور الأوضاع المعيشية إلى حد بلوغ الجوع.
ويتناقل ناشطون أسبوعياً أخباراً عن مبادرات تقوم بها بعض المعلمات، بشكل فردي، كأن ترسل إحداهن مذكرة مع التلامذة الذين يأتون من بيئات اجتماعية أفضل من سواهم، تكتب فيها: «إذا عندك أكل زيادة فكّر بطفل آخر، واعمل ساندويتشاً إضافياً أرسله مع ابنك/ابنتك ليقدمه لرفيق له في صفّه».
«ساندويتش حاف»
الإعلامية لارا نون أطلقت حملة مساعدة للطلبة، بعد انتشار ظاهرة الجوع ببعض المدارس، وتزايد التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي حول طلاب يأكلون ساندويتشاً «حافاً».
نون في اتصال مع القبس، قالت: «علمت من أساتذة ومن بعض التلامذة أن عدداً من الطلاب يحضرون معهم ساندويتشا حافاً، أو سندويتش زعتر بلا زيت (عبوة الزيت سعة ليتر ونصف الليتر تخطت مئة ألف ليرة). وهذه الظاهرة كبيرة، خاصة في المدارس الرسمية، وبعض المدارس وجهت نداء إلى الأهالي لعدم إرسال حلويات أو ما يفيض على حاجة التلميذ، أي ساندويتش وقنينة مياه، نظراً لتوافر أطفال غير قادرين على شراء مثل هذه الأمور».
وتضيف نون: «لذلك، أطلقت نداءً الى كلّ أم تستطيع أن تصنع في البيت قالب حلوى (حاف)، أو أي نوع آخر من الحلويات غير مُكلف، لأنّ كلّ قالب حلوى يستطيع أن يُطعم 20 أو 30 تلميذاً».
أخذت نون على عاتقها تجميع قوالب الحلوى وتوزيعها على المدارس المسيحية والإسلامية والرسمية، أما الاعتماد على الكاتو فلأنه أقل تكلفة من الساندويتش، حتى لو كانت لبنة، بعدما تجاوز سعر علبة اللبنة زنة 400 غرام 50 ألف ليرة، وكذلك، لتحاشي التسمم، ولكي لا نحمّل العائلات أعباءً إضافية، خصوصاً أن الأهالي بالكاد قادرون على إطعام أولادهم.
ردود الفعل على هذه المبادرة كانت رائعة كما تصفها نون. أمهات كثيرات عرضن المساعدة وتقديم قالبَي حلوى أسبوعياً، فضلاً عن أن جمعيات ومؤسسات غذائية عرضت خدماتها لتغطية النواقص في المدارس «ضمن الشروط التي وضعناها».
تصر نون على رفض التقديمات المالية، وتطلب ممن يرغب في التبرع والمساعدة تقديم مواد لصنع الحلويات، وتصر أنهن مجموعة أمهات يعملن من أجل تخفيف المعاناة عن أمهات مثلهن وأطفالهن ولسن جمعية خيرية.
كل الطلاب سواسية في الفقر
عندما سألنا السيدة سهام حداد، الأم لثلاثة أطفال يتلقون تعليمهم في مدرسة برج حمود الرسمية، ما الوجبات التي ترسلها مع أطفالها إلى المدرسة، سارعت إلى القول: هما نوعان فقط: لبنة، وزعتر وزيت، ومرة أسبوعياً جبنة مع خيارة.
ما يعزّي في الأمر- حسب السيدة التي لا تعمل وتعيل عائلتها من راتب زوجها الجندي في الجيش – أن كل التلامذة سواسية في الفقر في المدارس الرسمية، بما لا يدع مجالاً لأي شكوى من تمييز ما من قبل أطفالها، فالمشترك في ساندويتشات التلامذة هو اللبنة والزعتر والزيت.
وتقول: لا قدرة لي على شراء الأجبان والمرتديلا، ولا على تزويدهم بأصناف الحلويات، لأن راتب زوجي بالكاد يكفي فاتورة المولّد الكهربائي، وقد خفّضت الاشتراك هذا الشهر من 5 أمبير إلى 3 أمبير لا غير، بهدف توفير ما أمكن من مصروف الفاتورة التي لا تقل عن مليون ليرة كحد أدنى.
مشروع ساندويتش لكل تلميذ
خليل دياربي، أستاذ في مدرسة رسمية في صيدا، تعاون مع زميل له، لإطلاق مبادرة أسماها «ساندويتش لكل تلميذ»، لتوزيع أكبر عدد من الساندويتشات لأكبر عدد من طلاب المدارس الرسمية، الذين لا يستطيعون إحضار وجبة معهم. مكونات الساندويتش: جبنة، خبز عربي أو أفرنجي، خيارة، وموزة.
يقول خليل: الفكرة أتت بعدما قرأت منشوراً لمعلمة من طرابلس تطلب فيه من بعض التلامذة إحضار مزيد من الساندويتشات للطلاب المحتاجين. اتصلت بزميل لي يعلّم في مدرسة رسمية شرق صيدا، وسألته: هل لديكم طلاب في المدرسة يحضرون دون وجبة طعام ؟ فأجابني: قَدّ ما بدك.
ولأن هذه المسألة لم تعد محصورة بمدرسة واحدة أو بعدد قليل، وتكاد تتحول إلى ظاهرة في معظم المدارس الرسمية، وفي ظل غياب أي مبادرة رسمية على صعيد الدولة أو وزارة التربية، اندفع بعض الأساتذة والمعلمات للمبادرة باتجاه إطعام تلامذتهم بواسطة تبرعات ومساعدات عينية.
اللافت أنه من لا يستطيع المساعدة بالمواد تطوع للمساعدة بصنع السندويتشات. يقول الأستاذ دياربي. وهو أيضاً يمتنع عن قبول المساعدات المالية، ويقبل فقط المواد العينية: خبز، مناقيش، كرواسان، تفاح، خيار.
ويضيف دياربي: بدأنا بـ500 ساندويتش يومياً، وأصبح لدينا اليوم 800. العدد يكبر يومياً منذ انطلاقنا في هذا المشروع قبل أسبوع.
هذا الأمر دفع بالمبادرين إلى الاكتفاء بيومين أسبوعياً بعد أن تقاسموا مع جمعية أخرى أيام الأسبوع. أما التوزيع فيتم بعد الاتصال بمديري المدارس، للإبلاغ عن عدد الحالات المحتاجة، وكل مدير يأخذ على عاتقه توزيع الكمية المناسبة لمدرسته.
وعن مدى تقبّل التلامذة والأهل لهذه الفكرة، قال خليل إن معظم من طالتهم المبادرة لم يحضروا معهم سابقاً وجبات طعام بل كانوا يدبّرون أمورههم إما من رفيق أو يبقون دون طعام طيلة اليوم المدرسي.
كثر لم يصدقوا في بداية الأمر أن هذا ما يحصل في المدارس، لكننا رأيناه ونعاينه يومياً. وإذا كان واحد في المئة من تلامذة المدارس الرسمية يحضر دون طعام، فهذا يعني أن مبادرتنا نجحت. وهذا النجاح دفع بالآخرين للاقتداء بنا، ففي منطقة صيدا، تتناسل المبادرات، وآخرها عن جمعية الرعاية الاجتماعية. وأطلقت عليها اسم «زوّادة طالب». وأيضا تيار المستقبل أقدم على شيء شبيه. حمداً لله عمل الخير يُعدِي أيضاً.
مستقبل الأطفال على المحك
على وقع التدهور الاجتماعي المتسارع في لبنان، في مقابل الانسداد السياسي الذي يعيق أي خطة للإنقاذ المالي، يدفع الأطفال أثماناً باهظة، وحذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة من أن مستقبل الأطفال في لبنان بات «على المحك» من جراء تفاقم تداعيات الانهيار الاقتصادي عليهم، من نقص في التغذية والرعاية الصحية وارتفاع معدل العمالة.
وأظهرت الدراسة التي أجرتها المنظمة على مدى ستة أشهر أن مئات آلاف الأطفال في لبنان معرضون للخطر، متحدثة عن تراجع دراماتيكي في أسلوب عيش الأطفال اللبنانيين، في ما لا يزال الأطفال اللاجئون يرزحون تحت وطأة الضرر الكبير.