جاء في “القدس العربي”:
الصلاة التي رفعها البابا فرنسيس في الفاتيكان مع رؤساء الكنائس المسيحية من أجل «بلاد الأرز» كما يحلو للحبر الأعظم تسمية لبنان، تأتي لتعكس مدى الاهتمام بـ»وطن الرسالة» والخوف على بلد الشراكة المسيحية الغسلامية في وقت يشهد الحضور المسيحي الأبرز في منطقة الشرق الأوسط تراجعاً سياسياً وديموغرافياً، الأمر الذي يهدّد بتراجع الدور الذي لعبه المسيحيون ولاسيما الموارنة منذ تأسيس لبنان الكبير عام 1920. وليست المرة الأولى التي يبدي فيها الكرسي الرسولي اهتماماً بهذا البلد حيث دعا البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997 إلى سينودوس من أجل لبنان تلاه توقيع الارشاد الرسولي في خلال زيارته في ايار 1997 ثم كانت زيارة للبابا بنديكتورس السادس عشر في ايلول 2012 وقبلها بسنوات وتحديداً عام 1964 محطة للبابا بولس السادس في مطار بيروت.
وإذا كانت فرنسا اعتُبرت على مدى عقود بمثابة «الأم الحنون» للموارنة، فهي لم تعد تلعب فعلياً هذا الدور وباتت لها مصالحها في المنطقة، ولم تعد طريق فرنسا تمرّ بالضرورة في بكركي، إذ إن التقليد التاريخي كان أن يخصّص الرئيس الفرنسي زيارة إلى الصرح البطريرك للقاء البطريرك الماروني عند أي زيارة إلى لبنان، فيما لوحظ أن الرئيس إيمانويل ماكرون بدّل هذا التقليد والتقى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في قصر الصنوبر، فيما لم يزُر وزير خارجيته جان إيف لودريان بكركي في آخر زيارة إلى بيروت، الأمر الذي سبّب امتعاضاً في الصرح تمّت معالجته بالطلب من السفيرة الفرنسية آن غريو الاجتماع بالبطريرك وإطلاعه على نتائج المحادثات الفرنسية اللبنانية.
ومع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتحالفه مع حزب الله ومحور الممانعة، تدهورت العلاقة مع الدول العربية وخصوصاً الخليجية، ما انعكس سلباً على الوضع المسيحي الذي بسبب سياسات «التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل بات يُحسَب في الخانة الإيرانية والسورية، ما جعل العلاقة الرسمية بين لبنان والمملكة العربية السعودية تشهد فتوراً ووقفاً للدعم الذي دأبت عليه دول الخليج منذ إقرار اتفاق الطائف، وبدلاً من أن يتخذ الرئيس اللبناني مواقف وسطية تحافظ على علاقات لبنان بأشقائه العرب زاد التصاقه بحزب الله المصنّف كمنظمة إرهابية في عدد من الدول الخليجية.
وإذا كان المسيحيون يقوون في دولة قوية وقادرة، فإن تلاشي الدولة ومؤسساتها لصالح الدويلة انعكس سلباً على الحضور المسيحي فزادت الهجرة في السنتين الأخيرتين ولاسيما بعد الانفجار المدمّر في مرفأ بيروت الذي أصاب الجزء المسيحي من العاصمة، وترك أضراراً جسيمة في المستشفيات والمدارس التي تميّز بها المسيحيون، وباتوا عاجزين حالياً عن إعادتها إلى تألّقها بسبب الأوضاع الاقتصادية والمالية المنهارة بعد انهيار القطاع المصرفي الذي يُعتبر أيضاً من أهم المؤسسات التي يقف وراءها رجال أعمال مسيحيون.
ومع الواقع الذي بلغه الموقف الفرنسي الراعي التاريخي للمسيحيين، ومع الواقع الذي بلغه الموقف العربي الراعي الأساسي لاتفاق الطائف الضامن للمناصفة، بات المسيحيون اللبنانيون لأول مرة يشعرون بأن مصيرهم في البلد الذي أسّسوه مهدّد، وبأن مستقبلهم في بلاد الأرز غير مستقر. أكثر من ذلك فإن الخطاب العوني الذي يوصف بالتحريضي ضد اتفاق الطائف وضد بعض الطوائف بات يثير الغرائز والأحقاد والانقسامات ويهدّد بالعودة إلى لغة الحرب.
من هنا، استشعر البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الخطر وبدأ رفع الصوت بضرورة تحرير الشرعية والقرار الوطني وإعلان حياد لبنان ورفض أي تسوية على حساب لبنان أو أن يكون جائزة ترضية لأحد مؤكداً التمسك باتفاق الطائف والمناصفة ورفض المثالثة، وجاءت زيارته إلى الفاتيكان حيث وضع البابا فرنسيس في صورة الواقع اللبناني بشكل عام والمسيحي بشكل خاص. ولم يتأخر بابا روما في تلقّف الرسالة والتنبيه من خطورة إضعاف المكوّن المسيحي في لبنان الذي كما قال في خطابه أمام السلك الدبلوماسي «يهدّد بالقضاء على التوازن الداخلي» مؤكداً «على ضرورة أن تحافظ بلاد الأرز على هويتها الفريدة من أجل ضمان شرق أوسط تعددي متسامح ومتنوّع، يقدّم فيه الحضور المسيحي إسهامه ولا يقتصر على كونه أقلية فحسب» ومتبنياً فكرة الحياد من خلال التحذير من»الانغماس في التجاذبات والتوترات الإقليمية».
لقاء تفكير
وكان البابا يرغب وما زال في زيارة لبنان، لكنه يرهن هذه الزيارة بتشكيل حكومة، وهو لا يترك مناسبة إلا وتكون له لفتة تجاه هذا الوطن الصغير. ويعوّل كثيرون على أهمية الزيارة البابوية ولو معنوياً لأنها كما زيارة البابا يوحنا بولس الثاني في زمن الوصاية السورية والإحباط المسيحي عام 1997 تعطي أملاً ودفعاً للحضور المسيحي في البلد، وتؤسّس للتغيير، وهو ما تحقّق بعد 5 سنوات على إطلاق البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير نداء المطارنة الموارنة الشهير في ايلول من عام 2000 والذي طالب بجلاء الجيش السوري عن لبنان. وإلى أن تتشكّل حكومة وتتم زيارة البابا، استضاف الفاتيكان رؤساء الكنائس المسيحية في لبنان من أجل عقد لقاء تفكير وصلاة من أجل بلاد الأرز.
وهذه الصلاة ليست البداية ولن تكون النهاية، بل ستكون محطة في مسار جهود فاتيكانية لمساعدة لبنان على بقائه وطن الشراكة المسيحية الإسلامية وتلاقي الحضارات ودولة الممارسة الحرة والديمقراطية. وكان معبّراً كلام البطريرك الراعي قبيل مغادرته إلى روما عندما قال «لا نذهبُ إلى الفاتيكان حاملين همَّ المسيحيين وحدهم، بل همَّ جميع اللبنانيين، نحمل قضيةَ لبنان بما هي قضية الحريةِ والحوارِ والعيش المشترك المسيحي الإسلامي بالمساواة والتضامن والتعاون في هذا الشرق. إنَّ صِحّةَ الشرقِ من صِحّةِ لبنان. نذهب لنؤكد لقداسته حِرصَ اللبنانيين على الحياةِ معًا رغم جميعِ الخيباتِ والحروبِ التي مروا فيها بسببِ تَعدّدِ الولاءات، أو بسببِ أخطائِهم أو خصوصًا بسبب التدخلِّ الخارجيّ المقيت في شؤونهم».
ولم يكن طرح «حياد لبنان» غائباً عن الفاتيكان ولا الدعوة إلى مؤتمر دولي انطلاقاً من رغبة بكركي في تحقيق الاستقرار السياسي وعودة الازدهار الاقتصادي الذي لطالما تميّز به لبنان قبل عقود إلى حد توصيفه بـ»سويسرا الشرق». وتشير أوساط بكركي إلى «رفض أي تشويه للنظام اللبناني وميثاقه الوطني وأي اختلال في علاقات لبنان العربية والدولية ورفض إلصاق أي هويات تتناقض مع الهوية اللبنانية».
هل ستكون هناك حلول فورية للأزمة؟
قد لا تكون هناك حلول سحرية وسريعة لهذه الأزمة في ظل وجود» شياطين» السياسة في لبنان وحالة الإنكار الغريبة لدى من بيدهم زمام السلطة، لكن الأهم أن القضية اللبنانية التي يحمل همّها البطريرك الماروني وصلت إلى أعلى مرجعية روحية مسيحية في العالم، وهذه المرجعية لن تقبل بزوال التجربة اللبنانية التعددية وبزوال آخر وجود مسيحي فاعل في الشرق وفي الدول العربية. والأهم أن البابا فرنسيس صوّب البوصلة في كلمته في ردّ ضمني على من ينادي بحقوق المسيحيين ويثير الغرائز ويفتح دفاتر الماضي بتأكيد انفتاحه على»إخوتنا المسلمين والاستعداد للتعاون لبناء الأخوّة وتعزيز السلام، السلام ليس فيه غالبون ومغلوبون بل إخوة وأخوات يسيرون من الصراع إلى الوحدة، رغم سوء التفاهم وجِراح الماضي» مضيفاً «بكوننا مسيحيين نجدّد التزامنا ببناء مستقبل معاً، نحن المسيحيين مدعوون لأن نكون زارعي سلام وصانعي أخوّة وألا نعيش على أحقاد الماضي والتحسّر، وألا نهرب من مسؤوليات الحاضر» ومؤكداً على تحييد لبنان عن النزاعات بقوله «كفى استخدام لبنان لمصالح ومكاسب خارجية».