نهر ابراهيم: لائحة ضحاياه تطول!

كتبت زيزي اسطفان في “نداء الوطن”:

خمسة ايام عاشها لبنان مترقباً مشدود الأعصاب ينتظر مصير شابة ابتلعها النهر. خمسة أيام كان نهر ابراهيم فيها لغزاً مفتوحاً على كل الاحتمالات، وخوف الأهل جرحاً يتأرجح بين الإندمال والنزف. الصبية الصغيرة نورا حاطوم مجهولة المصير وفرق الإنقاذ مجندة للبحث عنها إلى ان اطل اليوم الخامس حزيناً قاتماً مع إعلان الدفاع المدني العثور على جثتها عالقة في مجرى النهر. أي نهر هو هذا الذي يبتلع روّاده ومحبيه، لماذا تطول لائحة ضحاياه عاماً بعد عام ؟ هل هو قدر قاتل أم استهتار؟

على الرغم من كل المخاطر يمكن لمسار نهر ابراهيم ان يكون آمناً إذا اتبع من يقصدونه تعليمات السلامة والإرشادات الوقائية التي تعطيها المديرية العامة للدفاع المدني حول مخاطر التواجد بالقرب من الانهر والبحيرات:

– الإبتعاد عن ضفاف الأنهر حين يكون التيّار سريعاً جراء ذوبان الثلوج.
– عدم السباحة في الأنهر والبحيرات وبرك الري الزراعية.
– عدم القفز من الأماكن العالية خصوصاً في المواقع الصخرية.
– مراقبة الأولاد ومنعهم من الإقتراب من ضفاف الأنهر أثناء إقامة النزهات في الطبيعة.
– عند التجول على متن القارب في مياه البحيرات وعدم الوقوف داخله، والتأكد من إرتداء سترة النجاة.
من جهته ينبه جوزيف ثابت الذي يجمع بين كونه عضواً في الدفاع المدني واستكشاف المغاور الى الإرشادات التالية:
– عدم قطع النهر بتاتاً من ضفة الى أخرى من دون حبال لا سيما إذا كان منسوب المياه مرتفعاً.
– الابتعاد عن الأماكن التي تعتبر خطرة وعدم التوغل في الأماكن البعيدة لا سيما إن كان الشخص وحيداً سواء كان محترف هايكنغ او هاوياً.
– عدم السير على الطرقات الضيقة والوعرة على ضفاف النهر حيث يصبح خطر الانزلاق كبيراً ولا سيما إن كان السائرون غير مزودين بالأحذية المناسبة والمعدات اللازمة.
– عدم اصطحاب مجموعات كبيرة من الأشخاص في رحلات سير او سباحة لأن المشرف على الرحلة قد لا يستطيع مراقبة كل المجموعة والتحكم بتعليمات السلامة.
– الالتزام بالمناطق المعروفة والبرك الآمنة وعدم السباحة في المياه الجارية.
– عدم الوقوف او الجلوس او السير على الصخور المغطاة بالطحالب لأنها شديدة الإنزلاق.

إرشادات وقائية
ليس موت نورا حاطوم (15 عاماً) الحادثة الأولى التي يشهدها النهر هذا العام، فقبلها سقط فيه أربعة عراقيين جرفتهم مياهه الهادرة فتم انقاذ ثلاثة منهم وتوفي الرابع غرقاً. وفي العام الماضي تم انتشال جثة شابين سوريين غرقا أثناء ممارستهما السباحة في النهر وقبلها انتشلت جثة شاب لبناني قضى غرقاً في منطقة شوان، هذا عدا الغرقى اطفالاً وكباراً ممن يجرفهم النهر عند مصبه على شاطئ نهر ابراهيم.

في الأساطير هو نهر الحب وانتصار الحياة على الموت لكنه في الواقع يستعيد بين الحين والآخر لونه الأحمر وتصطبغ مياهه لا بدماء أدونيس إنما بظلال أرواح متنزهين وسابحين ومغامرين اختاروا الحياة والطبيعة فسبقهم إليهما الموت القادم من النهر.

الأمل المفقود
مئات الأشخاص اندفعوا ووحّدوا جهودهم للبحث عن نورا حاطوم، توزعوا بين عناصر المراكز البرّية ووحدة الانقاذ البحري في الدفاع المدني وبين الجيش اللبناني والصليب الأحمر وهيئات مدنية مختلفة واهل واصدقاء، الى ان تم العثور يوم الخميس الواقع في 13 أيار 2021على جثة الطفلة التي كانت قد فقدت يوم الأحد في التاسع من أيار في نهر جنة في قرطبا. صدمة موجعة قضت على آمال الأهل الذين غرقوا في حزن هادر.

أدهم شقيق نورا اختصر الألم والحزن ورثاها قائلاً: من وقت ما عرفنا بالخبر والناس تزّفك بالورد والرز من جنّة لراشيا، زفّوكِ لي بيعرفوكِ واللي ما بيعرفوكِ حبيبي، يمكن ضحكتك ووجّك الحلو خلوكِ تفوتِ على قلوب الكل، يا قلبي انت.

حبيبتي، بحبك على قد الصلاة والدعوات لي من كل لبنان، على قد ما ضحكتك بتاخذ العقل وبتخلّي الشخص يبتسم من قلبه، على قد ما انتِ حلوة، يا قمر الحلوين، يا قمري انت.

بحبك يا ملاكي، يا حبي الباقي للابد».

يدفعون حياتهم ثمن عدم التوعية

أي نهر هذا وكيف يتحول الى قاتل ومفترس؟ من يحمي الناس من أنيابه؟ اسئلة كان لا بد من طرحها على سمير يزبك رئيس وحدة الإنقاذ البحري في الدفاع المدني إثر عملية الانتشال.

«ليست هذه المرة الأولى التي نفقد فيها أرواحاً في نهر ابراهيم هذه السنة، النهر خطر ولا سيما في هذه الفترة الممتدة بين أيار وحزيران حيث يرتفع منسوب المياه فيه مع ذوبان الثلوج ويصبح السقوط فيه مميتاً.

لكن المتنزهين لا يعون هذا الخطر الكامن وراء انسيابية النهر وتدفقه، يقاربونه بلا حذر بملابسهم وأحذيتهم العادية من دون التزوّد بالمعدات اللازمة كالحذاء المقاوم للانزلاق او العصا وسترة النجاة، ويقتربون من ضفته إما لالتقاط الصور او لغسل اليدين او في محاولة لوضع الرجلين في الماء فيقعون فيه ويقع المحظور، تجرفهم المياه الهادرة بسرعة ويكون خطر الغرق كبيراً جداً».

الدفاع المدني يحذّر دوماً من الاقتراب من الأنهر في هذا الفصل يؤكد يزبك مع ارتفاع منسوب المياه فيها، كما يؤكد ان ثمة أنهراً اخطر من غيرها ونهر ابراهيم واحداً منها فهو شديد الانحدار وكثير التعرجات مع منسوب مرتفع من المياه وعمق قليل ما يجعل ضغط المياه أكبر وقدرتها على سحب الأجسام أقوى، والنهر يختفي أحياناً في أنفاق تحت الأرض ليعود الى الظهور في مكان آخر وتكثر في مجراه الصخور والأغصان اليابسة ما يزيد من مخاطره ويصعّب عمليات البحث عن الغرقى فيه. حتى مع انخفاض منسوب النهر يبقى الخطر قائماً ولا سيما مع وجود الصخور التي قد يرتطم بها الرأس أثناء القفز او السباحة فيغيب الشخص عن وعيه. السباحة في الأنهر تبقى خطرة في كل الفصول رغم متعتها وكذلك استخدام قوارب النفخ المطاطية التي قد ترتطم بعائق فتنفّس وتغرق ويغرق من فيها إن لم يكن يتمتع بالخبرة الكافية للتعامل مع النهر».

يروي يزبك كيف استمرت عملية البحث عن الصبية نورا حاطوم خمسة أيام بلا جدوى إلى ان انخفض منسوب النهر حوالى 40 سنتم مع تغيّر الطقس واستطاعت كاميرا طائرة مسيرة تحديد موقعها بعد أن علقت جثة الصبية بين صخرتين». عملية البحث هذه ليست سهلة حتى على وحدة الإنقاذ البحري يقول، فارتفاع المياه يشكل خطراً على المنقذين وعليهم التزود بالمعدات اللازمة التي تضمن سلامتهم وقد تجرفهم المياه بدورها إن لم يعملوا كفريق ويربطوا أنفسهم بالحبال».

الغرق بدقائق

نسأل رئيس وحدة الإنقاذ البحري كيف وبأية سرعة يجب التبليغ عن عملية سقوط في النهر؟ فيجيبنا بأن التبليغ يجب أن يتم فوراً على الرقم 125 وهو رقم الدفاع المدني حيث يحضر المنقذون ويحددون الموقع ويبدأون البحث لمحاولة إنقاذ من سقط في النهر. وهنا يحذر يزبك بأن من يحاول إنقاذ الغريق قد يغرق بدوره لأن الغريق يسعى الى التشبث بأي شيء يراه من أجل النجاة وقد يتسبب بغرق المنقذ خاصة إذا كان هذا الأخير يفتقد الى الخبرة. ولكن للأسف متى تمت عملية الغرق لا يعود للوقت اية أهمية فالغرق لا يحتاج لأكثر من دقائق وحتى لو وصل المسعفون على الفور لا يعود بإمكانهم إنقاذ الغريق إنما قد يتمكنون من انتشال الجثة قبل أن تجرفها المياه. والمؤسف أيضاً أن جثث الغرقى قد تختفي في فراغات تحت الصخور أو تنزرك بين الصخور بسبب ضغط المياه او ربما تختفي في أنفاق تحت مجرى النهر فلا يتم العثور عليها. العراقيون الثلاثة حالفهم الحظ حين تشبثوا بصخرة واستطاعوا التقاط جثة رفيقهم ليتم انقاذهم في ما بعد».

يأسف يزبك ومثله كل من حاورناهم أنه على الرغم من التحذيرات التي يضعها الدفاع المدني والبلديات الواقعة في نطاق مجرى النهر وحتى شركة الكهرباء في نهر ابراهيم وعلى الرغم من وجود إشارات التنبيه بعدم الاقتراب وعدم السباحة في بعض الأماكن إلا أن التوعية لا تزال مفقودة وكثر ممن يقصدون النهر يتصرفون بلا مسؤولية او وعي للمخاطر فيدفعون من حياتهم وحياة أطفالهم ثمن عدم التوعية والاستهتار.

مجرى قاسٍ شديد الانحدار

الى جوزيف ثابت من الجمعية اللبنانية لاستكشاف المغاور Alesحملنا أسئلة لا بد منها حول المخاطر الجغرافية لنهر ابراهيم ودور الجمعية في عمليات الإنقاذ.

يخبرنا ان نهر ابراهيم ينبع من مغارتين، مغارة الرويس في العاقورة ومغارة افقا ويمر بقرى العاقورة، افقا، قرطبا، جنة، يحشوش، المعيصرة، شوان، بزحل، محمية جبل موسى ونهر ابراهيم ومعظم مساره ليس محمية طبيعية ولا يمكن وضع تحذيرات على كل المسار. ويتميز نهر ابراهيم بوجود هوة فيه يبلغ عمقها 80 متراً تعرف باسم هوة الداخون وتقع بالقرب من جنة وقرطبا كما انه يسير تحت الأرض مسافة 500 متر، مجراه قاس شديد الانحدار في واد ضيّق بين قضاءي كسروان وجبيل ومياهه سريعة الجريان بسبب طول المسافة المنحدرة بين المنبع والمصبّ وتتداخل في مساره الاشجار والأغصان والصخور. هذا الموقع يجعل منه نهراً خطراً وصعباً والوصول إليه في بعض المناطق يتطلب مهارات عالية وهو ما تقوم به الجمعية اللبنانية لاستكشاف المغاور بما تمتلكه من مهارات لا في النزول الى المغاور والوديان الوعرة فحسب بل ايضاً في القدرة على الصعود منها وحمل نقّالة الجرحى والمصابين او الجثث الى فوق، لذا غالباً ما تتطوع الجمعية للمساعدة في عمليات البحث مع القوى الأخرى لكونها تعرف بخبرتها كيف تحمي افرادها والمصابين وتتفادى الحوادث.

خلال مشاركته في عملية البحث عن الصبية المفقودة يقول ثابت: «دخلنا عبر شركة الكهرباء في نهر ابراهيم وأخذنا القارب مع الإنقاذ البحري صعوداً في مجرى النهر، وعلى الرغم من التحذيرات التي رأيتها بأم العين من شركة الكهرباء والتحذيرات من الخطر ومنع السباحة رأينا كابلاً مربوطاً في أحد الأماكن معدّاً ليتسلقه بعض الشباب ويقفزوا عنه الى النهر. وهذا إن دلّ على شيء فعلى عدم التزام الناس بالتحذيرات وعدم وعيهم للمخاطر المتربصة بهم. فالبلديات تقوم بما عليها وشركة الكهرباء منعت الدخول الى حرمها وحرم النهر وأقامت بوابات ووضعت تحذيرات لكن الناس لم يلتزموا فزادت تصرفاتهم المتهورة من مخاطر النهر».

صرخة استغاثة

بعد المعلومات العملية كان لا بد من استطلاع رأي السلطات المحلية أو البلديات التي يعبر ضمن نطاقها نهر ابراهيم ودورها في حماية المتنزهين ورواد النهر لنفاجأ بأن صرخة الاستغاثة مدوية وجمال الطبيعة يكاد يتحول كابوساً بالنسبة لأبناء المنطقة.

«الريّس» كارل زوين رئيس بلدية يحشوش يصف لـ»نداء الوطن» المعاناة المستمرة التي تعيشها المنطقة بسبب تهافت الناس على النهر وعدم التزامهم المطلق سواء بإرشادات الحفاظ على النظافة والأمن أو بإرشادات السلامة ويقول:» قانوناً النهر تابع لوزارة المياه والطاقة وليس للبلديات، وبلدة يحشوش يقع في نطاقها حوالى ستة كيلومترات من مجرى النهر وهي المسافة الأكبر بين البلديات لكن ما يجب التنبه له ان معظم العقارات المتاخمة للنهر هي عقارات خاصة ولا يمكن إقفالها من قبل البلدية وليس هناك أكثر من مترين على جانب كل ضفة يمكن اعتبارها أملاكاً عامة».

«المشكلة الكبرى يقول زوين اننا كبلدية لا نملك الإمكانيات المالية والبشرية لمراقبة النهر والمتنزهين الذين يقصدون المنطقة فعديد الشرطة في البلدية قليل وعدد المتنزهين كبير جداً لا سيما صيفاً، ولا نملك الصلاحية لتسييج الأراضي لمنع دخول المتنزهين او حصر دخولهم بأماكن معينة عبر بوابات يقف أمامها متطوعون من البلدة ويزودون القادمين بأكياس للنفايات ويعطونهم بعض الإرشادات فهذا الحل يحتاج الى تمويل نسعى للحصول عليه. نحاول التفكير بحلول لكننا لا نجدها وقد بات أهالي المنطقة يتأثرون جداً بعدد السيارات التي تتوقف على الطريق العام وبالفوضى التي تحدث جراء التصرفات الطائشة لبعض المتنزهين ولتراكم النفايات بشكل مزعج في واحدة من أجمل مناطق لبنان. لقد وهبنا الله منطقة رائعة وبدل استغلالها في السياحة البيئية تحولت بفعل تهور البعض وتصرفاته اللامسؤولة الى مكب للنفايات ومصدر لإزعاج الأهالي حتى أننا بتنا نعتمد على نوع من الأمن الذاتي من قبل شباب القرية ونراقب الطريق لنحمي انفسنا والناس من الخروقات التي تحدث».

نهر ابراهيم بات يشكل مشكلة ثنائية الجانب إذاً: على من يقصده وعلى أهالي المنطقة. نسأل «الريّس» عن مسؤولية البلديات في الحفاظ على السلامة والإجراءات التي تتخذها ونعلم منه أنه قانوناً ليست البلدية مسؤولة عن النهر وثمة بلدات يمر فيها ليس فيها بلديات بل مخاتير مثل بزحل وشوان وعملياً لا يمكن مراقبته لا من قبل إدارة الشواطئ ولا من قوى الأمن وليس هناك من جهاز رسمي خاص للمراقبة وإقامة دوريات من قبل وزارة السياحة مثلاً، في محمية جبل موسى الأمور مضبوطة اما في المناطق الأخرى فالمراقبة شبه مستحيلة من هنا لا بد من التركيز على التوعية للفت انتباه الناس الى المخاطر على سلامتهم وعلى البيئة. في يحشوش مركز للدفاع المدني يعاني ما يعانيه من نقص في الامكانيات المادية تساعد البلدية في تمويله بالممكن لكن اي تدخل من قبل متطوعيه للإنقاذ في النهر يحتاج الى تكلفة على الرغم من اندفاعة الشباب وحماستهم، من هنا وعبر «نداء الوطن» يوجه رئيس بلدية يحشوش دعوة الى الصليب الأحمر لإقامة مركز دائم في المنطقة على غرار المركز الذي اقيم في محطات التزلج لأنه يساهم في وضع آلية إنقاذ سريعة لرواد النهر والمشي في الطبيعة الذين يتعرضون لحوادث، مع التشديد على حملات التوعية وإلا فالحوادث مرشحة للاستمرار وآليات الإنقاذ للتعثر.