كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
في السمك النافق الموبوء وجد اللبنانيون الحل البديل عن أسعار اللحوم والدجاج، مجبولاً بالموت وبالمرض ومغمساً بطعم الفقر والجوع. لبنانيون وسوريون أكلوا أسماكاً نافقة في بحيرة القرعون، تهافتوا على جمعها وبيعها وشرائها، وبـ5000 ليرة أمّنوا لعائلاتهم وجبة قد لا يأكلون شبيهاً لها في القريب العاجل. عشرة أطنان من السمك الملوث بما لا يتخيله عقل من سموم وأمراض يقدّر أنها بيعت في الأسواق الشعبية. صورة مرعبة قاسية من جيف أسماك ميتة، وناس يكادون يتحولون جيفاً يطلبون قوت يومهم ولا يجدونه…
إذا كانت بحيرة القرعون بمساحتها المحددة قادرة على تأمين ما يزيد عن 150 طناً من الأسماك القابلة للاستهلاك، ألا يستطيع بحر لبنان بحدوده المطّاطة وشاطئه الذي يقارب طوله 188 كلم ان يؤمن للبنانيين الكميات الكافية من الأسماك، التي تعوضهم عن اللحوم المفقودة والدجاج المهدد بالانقطاع؟ أم ان الأسماك بدورها خاضعة لقطبة مخفية تجعل أسعارها في ارتفاع مستمر؟
بين موانئ الصيادين وسوق السمك المركزي تتوزع كميات الأسماك المتوافرة في السوق اللبناني، وتتنوع بين محلّي ومستورد وبين شعبي ورفيع المستوى اما الأسعار فتحددها عوامل كثيرة. نقيب صيادي الأسماك في بيروت وضواحيها جان شواح يؤكد أن “السمك اليوم صار أرخص مما كان عليه سابقاً إذا أردنا “تقريشه” بالدولار، ولو رفع الصيادون اسعار سمكهم بنسبة ارتفاع الدولار لما استطاع أي لبناني أن يأكل السمك المحلي او حتى المستورد. فالصيادون اضطروا الى رفع سعر الأسماك التي يصطادونها بسبب ارتفاع كلفة الصيد واسعار معداته من الشباك الى الخيوط، فقطع الغيار لمحركات المراكب وسعر المازوت، وعلى سبيل المثال بعض اصناف الأسماك كانت تباع بـ30,000 ليرة للكيلو الواحد أي بـ20 دولاراً، اليوم بات سعرها يوازي دولارين ونصف الدولار إذا لم يعمد الصيادون الى رفعه بنسبة مقبولة”.
السمك مقامات
هي النغمة ذاتها تتكرر في كل عملية رصد لارتفاع اسعار المواد على اختلافها، فبين الليرة والدولار ضاعت المعايير وصار كل ارتفاع مبرر. يتابع نقيب الصيادين كلامه قائلا: “لا شك ان من يقبض باللبناني سوف يجد السمك اغلى من ذي قبل وربما لن يقدر على تناول كل أنواعه. فالفقير لا يستطيع أكل السمك على ذوقه لأن ثمة انواعاً تفوق إمكانياته مثل “اللقز الرملي والصخري” و”السلطان” او “الملّيفة”، وعليه ان يختار ما بين “المواسطة” و”المنوري” و”البوري البلدي”، السمك الذي تتراوح اسعاره بين 20 او 30 الف ليرة وبين “الأجاج” و”البراق” المستورد، اما للفئات المتوسطة فـ”الجربيدي” و”السرغوس” خيارات مقبولة بسعر يتراوح بين 40 و 60 ألفاً للكيلو”.
السمك إذاً مقامات، ومروحة الخيارات والأسعار كبيرة وليست موحدة كأسعار اللحوم والدجاج ويمكن لكل فئات الشعب أن تجد بينها ما يناسبها. مع بداية ارتفاع الأسعار تراجع الطلب على الاسماك بحسب النقيب ومن كان يأكل السمك مرة في الأسبوع صار يأكله مرة في الشهر. ولكن مؤخراً و بسبب طيران اسعار اللحوم عاد الإقبال لشراء السمك وعاد المواطنون يجدون فيه الحل الذي يناسب ميزانيتهم.
نسأل النقيب إذا كان السمك المحلي يكفي السوق اللبناني ويؤمن ما يحتاجه اللبنانيون في هذه الظروف العصيبة؟ يخبرنا ان “الانتاج المحلي ليس كبيراً ولا كافياً لأسباب مختلفة منها أن الصيد في لبنان ساحلي، ولا مراكب كبيرة كما في تركيا تصطاد في عرض البحر بكميات كبيرة ولا قوانين تحمي الصيد والأسماك. وثمة مواسم يزداد فيها الصيد والانتاج حين يكون السمك عابراً او “رُحّلاً”، بلغة الصيادين، وتنخفض اسعاره، واليوم بدأ موسم “السردين” و”السكمبري” و”البلاميدا” والكميات كبيرة تكفي السوق. اما أنواع الأسماك الأخرى وما يعرف بالسمك الساكن فهي غير كافية وفي غير موسمها تكون اسعارها مرتفعة، لذا فإن الحاجة الى الاستيراد ضرورية لتأمين السوق على الا ينافس السمك المستورد البلدي، وأن توضع عليه ضرائب لحماية الصيادين وانتاجهم المحلي، لا سيما بالنسبة للاصناف التي يتواجد منها في البحر اللبناني”.
باختصار لا يزال الصيد في لبنان عملية حرفية ومن ينتظر سمكاً في بحر عليه الا يأمل كثيراً بثروتنا السمكية الضائعة ككل ثروات بحرنا، ولكن الاستيراد يأتي ليسد هذه الفجوة لا سيما عبر سوق السمك المركزي في منطقة الدورة الكرنتينا.
تراجع البيع من 400 الى 100 طن
سوق السمك هو السوق المركزي الوحيد للأسماك في العاصمة الذي يغذي كل لبنان، يتبع للمؤسسة العامة للاسواق الاستهلاكية التي تتبع بدورها لرئاسة مجلس الوزراء. يتعاطى السوق بيع السمك بالجملة والمفرق حيث يضم 12 بسطة للجملة و70 مسمكة للمفرق. يعمل وفق نظام خاص فمن الساعة الثانية فجراً وحتى السابعة يكون مخصصاً لمبيع الجملة فقط، ومن السابعة للخامسة بعد الظهر يفتح أمام زبائن المفرق، قد يصل عدد المتواجدين فيه صباحاً الى 4,000 شخص او أكثر ما بين صيادين وتجار وأصحاب مسامك ومطاعم وتعاونيات.
الحاج عبدالله غزال رئيس نقابة بيع الأسماك يقول لـ”نداء الوطن” ان السوق كان يبيع اسبوعياً بين 400 الى 500 طن من الأسماك المحلية والمستوردة، واعتماده الأساسي على الأسماك المستوردة من تركيا التي تصل الى حدود 200 طن ولا سيما “الأجاج” و”البرّاق”، وهي تأتي عن طريق مرفأ طرابلس إضافة الى اصناف أخرى يتم استيرادها من مصر والسنغال وموريتانيا.
مع ارتفاع سعر صرف الدولار تقلص البيع الى 100 طن اسبوعياً يغطي المستورد 90 الى 95% منها. ويؤكد غزال ان السمك اساساً أرخص من اللحوم وقد كان كيلو الأجاج يباع بـ7,000 ليرة كسعر جملة و12 ألفاً بالمفرق بحيث كان يمكن اعتباره أكل الفقراء. اليوم الاسعار ارتفعت وقارب سعر “الأجاج” غير المدعوم 50,000 ليرة فيما “اللقز الرملي” وصل الى 200,000.
سبب غلاء اسعار الأسماك يلخصه رئيس النقابة بالتالي: ارتفاع الدولار، تقلّص العرض، منافسة التعاونيات التي حظيت بدعم لبعض اصناف السمك المباعة فيها. مفاجأة غريبة تدفعنا للتساؤل كيف يمكن للتعاونيات ان تنافس سوق السمك بالجملة؟ يبدو ان ثلاث تعاونيات قد حظيت بدعم لصنفي “الأجاج” و”البراق” فيما لم يعط هذا الدعم لسوق السمك، فبات هناك تفاوت كبير في اسعار هذين الصنفين بين سوق السمك والتعاونيات المحظوظة. ربما يكون هذا لحظّ المستهلك الذي بات بامكانه الحصول على “الأجاج” بسعر 25,000 فيما سعره في السوق يقارب الخمسين، لكنه حتماً لم يناسب تجار السوق والمستوردين والمسامك التي حرمت من الدعم.
مدعوم أم ملغوم؟
تخبّط جديد في سياسة الدعم التي جاءت لصالح بعض المحظيين على حساب الفئات الأوسع التي كان يمكن ان تستفيد منها. يخبرنا أحدهم يرفض ذكر اسمه ان السمك المدعوم بمعظمه ملغوم… اي انه سمك من نوعية سيئة يتم بيعه على أنه مدعوم بأسعار أقل من السوق. حقيقة أم افتراء؟ سؤال يستحق الإجابة عنه. يؤكد غزال ان السمك المدعوم سمك “نضيف” ومراقب ويخضع لفحوصات الأطباء البيطريين وله تاريخ صلاحية لمدة 15 يوماً، لكن أحياناً قد يتأخر الكونتينر بالوصول والتفريغ فيتعب السمك. لكن هذا لا ينفي وجود غش عند البعض وهم قلة ممن يبيعون السمك المجلد على انه طازج بعد تذويبه بأسعار منخفضة…
في النهاية السمك عرض وطلب والسمكة الطازجة لا يمكن تركها لأكثر من يوم او يومين لذا فإن التجار لا يمكنهم تخزين السمك كما يفعل مربو واصحاب الأبقار والدجاج في انتظار ارتفاع الأسعار. “في السوق، يقول غزال، ينبغي علينا بيع الكميات الموجودة لدينا لذا نعمد الى إجراء المزادات للتخلص منها بأفضل الاسعار”.
تركيا هي اليوم مصدر السمك الشعبي الذي يشكل غذاء الفقير في لبنان ورغم انخفاض سعر الليرة التركية إلا أن الاستيراد منها يتم بالدولار، اما الاستيراد من مصر فقد تراجع كثيراً لا سيما أن اسعار الأسماك قد ارتفعت هناك ولم يعد يتخطّى شحنة واحدة في الأسبوع، واخرى شهرية من السنغال لأن كلفة الاستيراد عالية وتفرض ان تباع الأسماك في لبنان بين 150 الى 200 ألف للكيلو الواحد من “اللقّز” مثلاً. ويتوقع غزال ألا يشهد السوق ارتفاعاً أكبر في اسعار الأسماك إلا إذا عاد الدولار الى الارتفاع، ويرى انه مع بدء موسم الصيد المحلي ستكون الأسعار مقبولة لا سيما بالنسبة لـ”السردين”، و للمواطن اللبناني الحرية في الاختيار بين اصناف تتراوح اسعارها من 25 الى 150 ألف ليرة.
بعيداً من التحليلات الاقتصادية ودائرة الدعم المفرغة والصراع المستعر دوماً بين السمك المحلي والمستورد، يبقى البحر ملاذاً كريماً لكل من ضاقت به سبل العيش على اليابسة، قصبة صيد من الغزار وخيط وصنارة ووقفة تحت لهيب الشمس في موقع تكتيكي، ويمكن لرب العائلة تأمين قوت لأولاده بلا جميلة وزارة الاقتصاد ولوائحها المدعومة، وبلا منّة جماعات الإعاشة الذين ملأوا بطون اللبنانيين بالارز المصري و”السردين” المعلب.