بعد نحو عشرين عاماً على انسحاب الجيش الإسرائيلي وعملائهِ ممن عُرفوا بـ”جيش لبنان الجنوبي” من لبنان، تتجدّد كما في كل عام، قضيّة عودة هؤلاء لتطرحَ نفسها كمادةِ جدلٍ على بساط البحث، سواء داخل مؤسّسات الدولة أو على مواقع التواصل الإجتماعي، وآخر هذه الطروحات كان أوّل من أمس من بوابة قانون العفو الذي أُسقط مُجدداً داخل مجلس النوّاب بعد اختلاف الكُتل النيابيّة حول الآلية التي يجب أن يسلكها هذا القانون.
مُنذ أقلّ من عام وخلال زيارته الى بلداتٍ جنوبيّة مُحاذية لإسرائيل، تطرّق رئيس “التيّار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الذي كان يومها وزيراً للخارجية، إلى موضوع اللبنانيين الفارّين إلى إسرائيل وضرورة عودتهم إلى بلادهم من خلال “قانون خاص”. وقال حينها: “حقهم بالعودة إلى وطنهم”، وأن “وزير العدل ألبرت سرحان سيتقدم بمشروع مرسوم لوضع آلية تطبيق للقانون الذي يساعد على عودة المُبعدين وعلى بدء مسيرة العودة”.
بغضّ النظر حول الدوافع والظروف التي أدّت إلى فرارِ هؤلاء العملاء من لبنان الى داخل إسرائيل والأسباب التي دَعتهم في الأصل إلى التعامل مع هذا العدو، طبعاً من دون منح تبريرات للعمالة، إلا أنه يُمكن القول أن القضيّة تحوّلت منذ سنوات إلى قضيّة رأي عام انقسمَ حولها اللبنانيون بطوائفهم ومذاهبهم، وأحزابهم. وعلى الرغم من كل ما يُثار ويُطرح، يبقى السؤال الأبرز مُتعلّق بعائلات هؤلاء العملاء وعائلاتهم، خصوصاً الأبناء الذين وُلدوا في إسرائيل.
في قضاء بنت جبيل وتحديداً ما يُعرف بالقرى المسيحيّة، مثل رميش ودبل وعين إبل وغيرها من القرى، أنشأت إسرائيل “جيش لبنان الحر” بهدف حماية أمنها من أيّ هجوم عبر الحدود التي تربطها مع لبنان. وكانت نواة هذا الجيش مؤلّفة من مواطنين لبنانيين وعسكريين متقاعدين من الجيش اللبناني على رأسهم الرائد سعد حدّاد المُتمرّد على الشرعيّة اللبنانية قبل أن يخلفه في العام 1984 الضابط في الجيش اللبناني أنطوان لحد الذي فرّ إلى اسرائيل يوم الإنسحاب ومات فيها في العام 2015.
أهالي هذه القرى ما زالوا يُعانون مأساة فعليّة بنسبة تزيد عن بقيّة القرى الاسلامية من جرّاء نزوح العديد من أبنائهم وعائلاتهم إلى اسرائيل، إمّا بسبب تعامل أحد أفراد العائلة مع إسرائيل وإمّا بسبب خوف بعضهم على مصيرهم ومصير أبنائهم من أن تطالهم يد الإنتقام بعد عمليّة التحرير خصوصاً وأن الإنسحاب المُفاجئ في حينه، خلق بحدّ ذاته نوعاً من الإرباك داخل نفوس كل الجنوبيين على حد سواء بما فيهم المقاومة والدولة اللبنانية.
البحث عن أهالي فارّين إلى إسرائيل داخل القرى المسيحيّة يُمكن أن يتحدّثوا عن معاناتهم وصعوبة الحياة التي يواجهونها من جرّاء الإبتعاد، دونه الكثير من الصعوبات لما لهذا الموضوع من حساسيّة بالغة الدقّة لدى أهل الجنوب عموماً وأهالي الفارّين أو “المبعدين” كما يُفضّلون تسميتهم خصوصاً، إذ ثمّة تخوّف كبير من أن تطالهم أيضاً مُلاحقات، سواء من الدولة أو من الجهات المُسيطرة على أجواء الجنوب. والأبرز، التمنّي بعدم التقاط الصور، خشية التعرّض للمسائلات.
ثمّة خوف ما زال مُسيطر على أهالي القرى الحدوديّة المسيحيّة. بعضهم يُتمتم في قرارة نفسه عن عُملاء بـ”سمن” وآخرون بـ”زيت”. يقول أحد المخاتير: “هناك عملاء سابقون تحوّلوا إلى مسؤولين في جهات حزبيّة أو إلى أصحاب مناصب في الدولة اللبنانية كرئيس لبلدية أو نائباً له. المُشكلة أن الدولة تعاطت في هذا الملف على قاعدة صيف وشتاء تحت سقف واحد”.
إحداهن تروي ليلة هروب إبنها من القرية: “في تلك الليلة هرب إبني ليلاً، يومها كنت نائمة أنا وزوجي “الله يرحمه”، أيقظني وطلب مني توضيب ثيابه داخل شنطة صغيرة لأنه سيغادر الى إسرائيل لفترة قصيرة ريثما تنتهي الأمور على خير. يومها، ظنّنت أن الفترة لن تطول لكنها امتدت حتّى اليوم. المًشكلة أن البعض يتعامل معنا ومع قُرانا على أننا عملاء. نحن منبوذون من الدولة ومن القادة المسيحيين، ليس هناك من يتحدّث عن وجعنا وقهرنا الكل يريد ان يقتص منّا”.
شقيق أحد العملاء الفارين يتحدّث عن معاناة عائلته، فيُشير إلى أن “شقيقه اضطر في عمر السادسة عشرة للالتحاق بـ”الجيش الجنوبي” ليُعيل والدي على مصروفنا. ساعدني على إكمال دراستي الجامعية في بيروت وأعال شقيقتي وزوجها، ألا يوجد هناك من يتفهم وضعنا ويَمنع عنّا الظلم للمرة الثانية؟ أين هو العدل والانصاف في هذا البلد؟ لا يوجد هنا شاب تعاملَ مع اسرائيل بِملء إرادته. الشباب كانوا يريدون حماية عائلاتهم والحفاظ على حياة كريمة لأولادهم خصوصاً وأن الدولة كانت وما زالت غائبة عنّا”.
والدٌ تسعينيّ يشنّ بدوره هجوماً لاذعاً على المراجع المسيحيّة الدينيّة والسياسيّة، يقول: “نحن مسيحيّو الأطراف لا قيمة لنا لا عند مراجعنا الدينية ولا حتى عند القادة السياسيين. هم ليسوا بحاجة إلينا ولا إلى أصواتنا.
تصوّر أن أحدهم وبّخنا لعدم تصويتنا له خلال إحدى الدورات الإنتخابية، قائلاً لنا: “لا احتاج الى أصواتكم”. ويُتابع:” يا إبني تصوّر أن بعض الأقرباء يُطالبوننا بعدم السعي بعودتهم الى البلد حيث لا أشغال ولا حياة اجتماعية هنا، لكن كما سبق وقال رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ذات يوم “زيوان بلادك ولا قمح الصليبي”.
ينتهي الحديث مع عائلات الفارّين وسط إصرار والدة أحدهم على تمرير جملة صغيرة، فتقول: “كان يُمكن أن تمرَّ الساعات التي تَلت الانسحاب الاسرائيلي بأقلّ الاضرار الإنسانية المُمكنة لولا دعوة السيد نصرالله عناصرَ حزبهِ إلى ذبحِ العملاء في فراشهم. يومها فرّ الصالح قبل الطالح، خوفاً من الذبح…”.
المصدر:”ليبانون ديبايت“