منذ زمن ليس ببعيد؛ قال نعوم تشومسكي عالم الألسنية اليهودي الأميركي: “وظيفة الإعلام الأميركي هي أن تسلّي وتلهي وتعلّم”. ولكن ما شأننا والإعلام الأميركي؟ مهلًا؛ السؤال الأول: هل القنوات المحلية في بلدنا، أو البلدان العربية الأخرى، تمارس الدور نفسه؟ تسلّي وتلهي وتعلّم؟ في الأفعال الثلاثة قاعدة جوهرية : “أهدم إيدولوجيات الشعب، وابنِ له أخرى متوافقة وثقافة العولمة الأميركية”.
ليس عبثًا أن تسمح قناة “الجديد” ببث الفيديو “الوثائقي” متناولاً قصة تكاليف بناء ضريح سيد شهداء الأمة سماحة السيد حسن نصرالله؛ في تسويق ضمني خبيث يسخّف مبدأ تعظيم القادة الشهداء وتخليد ذكراهم، في سياق الدفاع المزعوم عن حق أهل الضاحية بهذه الملايين من الدولارات التي صُرفت على الضريح؛ إلى جانب الخوف على صورة بيروت “السياحية” و”الحضارية”..!
إنّه الإعلام المعولم؛ فما بين الإعلام والعولمة الإمبريالية سياسة إيديولوجية خفية؛ غايتها إعادة تركيب مفاهيم ثقافية لعدد كبير من القيم الأخلاقية والركائز والتقاليد التاريخية للشعوب التي ما توصلت إليها إلّا بعد تجارب عمرها الآف السنين. هي علائق عاشتها الأمم واختبرتها، ووجدت فيها ملاذًا دائمًا لحماية هويتها والحفاظ على استمرارية كينونتها وسيادة وجودها.
من هذه القيم التي تعمل العولمة الإمبريالية على سحقها وتفكيكها ومحوها من تقاليد الشعوب وثقافاتها هي تقدير القيادات الكبرى في الأمم؛ خاصة الأمم التي صنعت استقلالها وسيادتها بفضل هذه القيادات العظيمة، والتي يحرص أتباعها على الإبقاء على ذكرها؛ لأنّ في ذلك استمرارًا لمجد الأمة، وتذكيرًا للأجيال المتلاحقة دومًا بأمجادها كي تحافظ على إنجازات تلك القيادات وتطويرها للمستقبل.
في هذا السياق؛ تأتي العولمة الأميركية المتسيدة على العالم، مع خلفيتها الفلسفية القائمة على هدم السرديات الكبرى للشعوب والأمم من منظور “ما بعد حداثي”. في فلسفة “ما بعد الحداثة” الغربية؛ تنظير لتطويع الشعوب عبر خلق فوضى في المفاهيم والقيم ودلالاتها، هذه القيم التي تستولد منها الشعوب طاقة إنسانية فريدة، تجعل كلّ جماعة ثقافية أممية تتمايز عن غيرها، في الهوية والانتماء. ومع العولمة الأميركية، ومنهجها الإمبريالي الاستعلائي، عبث في مفاهيم هذه القيم وجعلها متذبذبة؛ في إطار يصبح معها مفهوم كل قيمة مسألة وجهة نظر ليس إلًا. وهي دائمًا قابلة للتغير والاستبدال؛ لا معايير أساسية للتحكّم في المفهوم والمصطلح ومعانيه، وإهمال في السرد والتعمية على مسار كل قيمة إيجابية ذات شأن في تظهير الهوية والانتماء وبذل التضحيات للحفاظ على أصالة الوجود وديمومته؛ في مقابل اتجاه يأخذها نحو الخواء والأوهام على شاكلة مفردات ما يُسمّى الحضارة الغربية، وتحديدًا الأميركية.
في إطار هذه المنهجية للعولمة الأميركية؛ يحظى الإعلام بدور يفوق أي دور على الإطلاق. فهو الأداة الفاعلة الأساسية في تمكين إيدولوجية تلك العولمة من تحقيق ما تصبو إليه، عندما تُدار اللعبة من زوايا شعارات إنسانية يٌراد بها باطل؛ من قبيل: “حرية التعبير”؛ حرية الرأي”، الرأي والرأي الآخر”، “ديموقراطية الإعلام”؛ “عدم الانحياز”.. وقس على ذلك ما بدا لك من شعارات لا تنتهي، إذ كل يوم يخترعون لنا قيمة ويلبسونها بعدًا إنسانيًا بغية تمسك الجماهير بها، حتى الدفاع عنها، ولا يدرون أنها فخ الاستدراج إلى التخلي عن الذات الإنسانية بمكنونها الأصيل الذي فطرها الله عليه.
لذلك؛ لا يأتي أداء قناة “الجديد” مفارقًا لهذا التوجه الإيديولوجي المعولم الخفي، خصوصًا في أدائها الأخير؛ فأي “وثائقي” يزعم زيفًا علميةً لم يوثقها ولم يبرزها؛ إنما يحشد التقرير المفبرك، والمدفوع ثمنه سلفًا، بجمل إنشائية مصفوفة في سرد خبري ركيك المنطق، يحاول جاهدًا إقناع المتلقي في ما يزعمه .. وبين ألفاظه “فذلكة” تمّرر لإطفاء وهج المحتفى به بتقديم سردية أخرى تحمل في طياتها تغليب العناصر المادية البحتة لحياة خالية من الأصول والتأريخ، لحياة اللهو والتسلية- كما يقول تشومسكي- لحياة “السياحة” وجذب رؤوس الأموال في مقارنة تقتل كل قيمة عظيمة؛ وتردم في تراب المال الآتي من المجون كل مقوّم من مقومات الشرف والكرامة..هي تمامًا نسخة من الحياة في الحضارة الغربية- إن اتفقنا فعلًا على أنها حضارة- حيث الرأسمالية الليبرالية المتوحشة تدوس على إنسانية الإنسان، ليبقى فيه الشيطان “مبتكر الثقافة” و”سيد البشرية”.
إنّ خوف هؤلاء، ومن خلفهم أرباب العولمة الشيطانية، من مجرد الإبقاء على ذكر هذا الرجل العظيم حيًا في قلوب الأجيال القادمة؛ يصيبهم بالرعب..إذ لا يوافقهم أن تكون عزيزة مستقلة سيادية؛ لها تأريخ تحترمه وتقدّره وتعظمه، فهو الهوية والانتماء والسردية الأبدية لهذه الأمة المحمدية التي تُجسد أجيالها الحق بالدم؛ منذ عهد الرسول الأعظم (ص) وخليفته الإمام علي بن أبي طالب؛ والحرب دائرة على محو هذا التاريخ النقي، وتشويه أدائه.. وصولًا إلى هذه اللحظة الراهنة؛ حين يعيدون إنتاج أكثر المفاهيم انتشارًا وشيوعًا؛ القائد والقيادة..
لا مسار تاريخ الاضطهاد، ولا ألاعيب شياطين الأمس واليوم، استطاعوا محو سيرة العظماء في تاريخنا الناصع بدماء الشهداء، على مدى العصور المتلاحقة، وستبقى هذه السردية المشرفة منارة لأجيالنا القادمة لتكمل رسالة نبيها وإمامها حتى تسليم الراية إلى إمام زماننا، نصرًا مؤزرًا على رؤوس الأشهاد، حين تصبح الأرض كلها معولمة بدين الحق والعدالة والشرف والكرامة..
د. زينب الطّحان/ موقع “أوراق”