عشرات اللبنانيين بين قوارب الموت وإذلال الحدود

أحدث الإنقلاب المفاجئ وغير المسبوق في خريطة لبنان الصحيّة، تغييراً دراماتيكياً في دينامية الصراع ما بين السلطة الحاكمة والثوار إذ تحوّلت طرابلس من “عروس الثورة” إلى “عروس الهجرة”. وكان الشّمالي حتى وقت قريب هو المتصدر لشاشات التلفزة والمطالب الأول بالتغيير لكنه صار الآن الباحث الأول عن وطن آخر يأويه. ففي طرابلس رحلة سفر يومية تحمل شماليين نحو تركيا وهناك يمزقون جوازاتهم ويقفون مذلولين على حدود اليونان البرية أو يأخذون أحد قوارب الموت نحوها بحراً.

بلا حسيب أو رقيب، تنظم مجموعات في طرابلس رحلات سفر نحو تركيا ومنها إلى اليونان بعد أن قال رئيس تركيا رجب طيب أردوغان أن حكومته “فتحت الأبواب” لمرورهم إلى اليونان، وبالتالي الاتحاد الأوروبي. الأمر الذي لم يقتصر على الجالية السورية في لبنان بل جذب اللبنانيين الذين تعبوا من الوضع المتدهور للبلاد ومكتومي القيد المنسيّين في قاموس الدولة اللبنانية.

هروب يومي

لا فرق بين لبناني وسوري وفلسطيني بالتكلفة، الكل مرحب به على متن الباص أو الطيارة، كلٌّ بحسب مقدرته المالية، أما مكتوم القيد فكلفة رحلته 7 ملايين ليرة لبنانية “لأن وضعه حسّاس” بحسب منظمي الرحلات. وعلى متن كل رحلة يومية، ينقلون شخصين على الأقل من المواطنين اللبنانيين وشخصاً مكتوم القيد.

وفي حديث إلى”نداء الوطن” عرض الناشط السياسي الطرابلسي أحمد السيد للواقع المستجد: “بحكم وجودي في ألمانيا، أنعم بحرية رأي كبيرة وأستطيع أكثر من غيري إيصال صوت المستضعفين الذين يرسلون لي رسائل حول قضاياهم وعليه، بات يصلني منذ أن أعلن اردوغان فتح ابواب بلاده نحو أوروبا، العشرات من الرسائل التي تخبرني عن تفاصيل الرحلات اليومية نحو تركيا، أو رسائل الكترونية لأشخاص وصلوا إلى أبواب الحدود اليونانية البرية يخبرونني فيها عما يتعرضون له من اعتداءات وعبوات مسيلة للدموع من الشرطة اليونانية، أو أخباراً عن لبنانيين وصلوا بنجاح إلى اليونان عبر البحر، وعن الكثير من مكتومي القيد في الشمال اللبناني الذين ارتأوا الهجرة ويرون في تلك الرحلة الخطرة أملاً بالإعتراف، ورجاءً بمعاملتهم كبشر”. وتابع “ما أن فتحت أنقرة حدودها الشهر الماضي، بعد أن اتهمت الاتحاد الأوروبي بالفشل في تحمل مسؤولية اللاجئين الذين يعانون في بلدانه ومواكبة مدفوعاته، فتحت معه جروح اللبنانيين اليائسين مما آلت اليه الأمور في بلادنا. ولكن أشك أن يتصرف المسؤولون بالطريقة المطلوبة للحد من هذه الظاهرة المخيفة التي لا تعكس الا الصورة الحقيقة عن نتائج استهتار الحكومات المتعاقبة”.

من جهته يقول مصطفى لطش وهو مكتوم القيد لـ”نداء الوطن”: “نحن مجرد أشباح غير معترف بنا في وطننا أصلاً، فلن يفرق وجودنا في لبنان من عدمه، لذا هناك العديد من مكتومي القيد في الشمال ومن محيطنا الطرابلسي، يلجأون اليوم إلى السفر نحو أوروبا عبر تركيا رغبةً بالحصول على جنسية والتحول من لامرئيين إلى مواطنين محترمين بالحقوق والواجبات”.

لاعب منتخب لبنان للشباب

يجد عشرات اللبنانيين أنفسهم محاصرين في موقف محفوف بالمخاطر بالقرب من حدود الاتحاد الأوروبي، كما في مواجهة سفن حربية تابعة للبحرية اليونانية لمنع القوارب الصغيرة التي تحملهم من الوصول إلى الشاطئ، في حين اتخذت الحكومة اليونانية مجموعة من الخطوات الصارمة، بما في ذلك نشر قوات على الحدود، وتعليق طلبات اللجوء وتعهد بترحيل الذين يدخلون البلاد بطريقة غير قانونية. كما يأخذ بعض السكان اليونانيين مبادرة ضبط الحدود بأنفسهم من خلال تشكيل دوريات مدنية تهدف إلى وقف تدفق المهاجرين الى بلادهم.

ويقول الشاب عبد دكرمنجي، وهو لاعب كرة قدم في منتخب لبنان للشباب، ومن جملة اللبنانيين الذين تركوا البلاد نحو المهجر لـ”نداء الوطن” أنه قد ترك لبنان هو و6 شباب لبنانيين من أصحابه، إلى طريق اللاعودة وعلى أمل الحصول على مستقبل أكثر إشراقًا. ولكنهم تعرضوا جميعاً “للتعذيب ومسيل الدموع والضرب على أيدي سلطات الحدود اليونانية، كما أجبر البعض على العودة باتجاه الأراضي القاحلة على الحدود اليونانية التركية في أوزونكوبرو في أدرنة. وأخبرنا أن من كانوا في الصفوف الأمامية، جُردوا من ملابسهم وممتلكاتهم على أيدي شرطة الحدود اليونانية، التي احتجزتهم أثناء محاولتهم دخول اليونان وضربوا بالرصاص المطاطي والرصاص الحي. “وأن خمس طالبي اللجوء على الأقل لقوا حتفهم في أعمال عنف على الحدود منهم طفلان”. وأضاف “لقد مثلت لبنان في العديد من النشاطات الرياضية كوني كنت أحد اللاعبين في منتخب لبنان لكرة القدم للشباب، ولكن بعد انعدام مقومات الحياة الكريمة في لبنان اخترت انا وأصدقائي الخمسة اللجوء لأي بلد أوروبي يستقبلنا لنرفع اسمهم عالياً ونعامل باحترام فيه ونجد عملاً ومنزلاً يأوينا”.

وعن تفاصيل رحلتهم نحو المجهول قال دكرمنجي: “ذهبنا إلى اسطنبول عبر مطار بيروت وبقينا فيها 5 أيام إنتظاراً للباصات المتوجهة نحو الحدود اليونانية، وبعد وصولنا إلى منطقة “أدرنة” أخذنا مهربان في سيارات وأوصلانا إلى أقرب نقطة ممكنة وبعدها مشينا في مسيرة على الأقدام حوالى الـ20 كلم، حاملين كل أغراضنا على ظهورنا ومن دون راحة الى أن وصلنا إلى نقطة تفتيش ثانية، فاختبأنا لأن الشرطة كانت تجرد كل من تشك بأمرهم من الهواتف الخلوية والملابس. وتوقفنا إلى أن تواصل معنا مهرب نقلنا بالسيارة إلى مكان آخر ومنه مشينا مجدداً مسافة طويلة الى أن وصلنا إلى بازاركولاي”.

ويروي أحد أصدقاء دكرمنجي الذي رفض ذكر اسمه لـ “نداء الوطن” فصلاً من المغامرة: “نحن الستة من طرابلس وأعمارنا تتراوح بين الـ19 والـ26 وأنا عمري 20 سنة، أؤكد لكم أنني أفضل الموت هنا على العودة الى جحيم ما نعانيه في لبنان من إهمال الدولة لنا ولمناطقنا. وحتى الآن استخدمت الشرطة هنا التعذيب لصد الأشخاص الذين يحاولون اختراق الحدود البرية من الجانب التركي، ولكن لا أرى مستقبلاً في بلدي ولا أريده ونحن بانتظار فتح المعابر”. وعن وجود لبنانيين آخرين قال: “فضلنا عدم الإختلاط كثيراً ولكن يقال أن هناك رحلات كثيرة يتم تنظيمها من لبنان إلى هنا وبالتالي “اكيد في غيرنا” ولكن لا نعلم أعدادهم”.

وصلوا الى اليونان

على المقلب الآخر استطاع المواطن اللبناني مازن صيداوي وعائلته وصديقه العبور بنجاح من شاطئ أزمير نحو جزيرة كيوس في اليونان عبر “قوارب الموت المطاطية” وقال لـ”نداء الوطن” أنه موجود اليوم مع زوجته وأطفاله على الجزيرة وأن الرحلة بالقارب كلّفته 800$ على الشخص الواحد باستثنائه بما أنه أبحر بالقارب بصفته سائقاً فأُعفي من تسديد المبلغ لقيادته. وأضاف “مساحة القارب حوالى ال4ـ أمتار مربعة وكنا فيه 10 أشخاص، سلموني القيادة وتركونا نبحر وحدنا نحو مصيرنا، سلمت أمري إلى الله وقلت يا رب” وأكمل “الوضع أخطر مما تتخيلون في طريق البحر نحو جزيرة كيوس، حيث نحاول واللاجئون الدخول في قوارب مطاطية وقوارب صغيرة، بينما يستخدم السكان القوة ضدنا وضد أي منظمات غير حكومية، التي تساعدنا، وكذلك الصحافيين الذين يتناولون القضية. وخلال الرحلة يقطع بجانبنا اليونانيون بيخوتهم ويسرعون ويرشوننا بالمياه محاولين إغراقنا وفي الرحلة التي تلتنا، أخذوا من اللاجئين محرّك قاربهم وتعرض بعضهم للغرق والأذية. ولكن رغم كل ذلك أنصح الجميع بالخروج من لبنان “خليهم ما يلاقوا حدا يحكموه لقد تعبنا”.

وختم “هناك العشرات من اللبنانيين من طرابلس وعكار والقبة هنا نجحوا في العبور، وأعرف أكثر من 50 شخصاً يكلمني بشكل يومي بخاصة مكتومي القيد ومن لا يملك أوراقاً ثبوتية، ينوون القدوم هرباً من الفساد المستشري في لبنان والوضع الذي لم يعد يُحتمل، من ناحيتي لن أعود ولقد بعت منزلي وكل ما أملك حتى عفش بيتي كي أصل إلى هنا”. وأقرّ انها “أيام صعبة” وأنه ينام في باص وأن التصوير في المنطقة التي لجأ إليها ممنوع وأن المكان مكتظ باللاجئين من مختلف الجنسيات، لكن “الآتي أهون من حياة الذل والمهانة والوعود الفارغة التي يرددها الحكام على مسامعنا منذ سنين، عند كل مطلع انتخابات. وحين يمرض أولادنا ما من مستشفى تستقبلهم الا بعد “تبويس الأيادي” لذا الذل هنا لبعض الوقت أرحم من الذل اللانهائي في لبنان وعلى الأقل أضمن شيخوختي”.

أما زوجته فقد قررت ألا تدلي بأي موقف، والتزمت صمتاً يكشف عن المعضلة التي يواجهها المواطنون الهاربون “نحو مستقبل لأولادهم” والذي يثير حماسة العديد من الشماليين، ولا سيما الشبان الذين يرون في أوروبا جنة توفر لهم ضماناً صحياً شاملاً، ودراسة مجانية، واهتماماً لم يلقوه في موطنهم.

رأي القانون

يقول المحامي خالد مرعب لـ”نداء الوطن” ان تعليق طلبات اللجوء في اليونان، ليس له أي سند قانوني بموجب القانون الدولي. ويتابع “في ألعاب القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، يتحول اللاجئون والمشردون إلى أسلحة للضغط والإبتزاز للأسف، وبموجب اتفاقية جنيف للاجئين، والقانون الأوروبي ذي الصلة، لا يوجد شيء اسمه “الهجرة غير الشرعية” أو “الهجرة غير النظامية” طالما يقدم المهاجر طلب الحماية الدولية عند الدخول غير القانوني إلى بلد ما. علاوة على ذلك، فإن عبارة “حماية الحدود الخارجية” للاتحاد الأوروبي مضللة تماماً، لأنها تشير إلى إنشاء القانون والنظام، في حين أنها تعني في الواقع منع اللاجئين وطالبي اللجوء بشكل غير قانوني من دخول أراضي الاتحاد الأوروبي، كما يعد تعليق إجراءات اللجوء، سواء لمدة شهر أو حتى يوم واحد، انتهاكاً لاتفاقية جنيف والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والقانون الوطني اليوناني أو الهنغاري. فإن إبرام صفقة مع تركيا لن يضمن الغاء اتفاقية جنيف والحق في اللجوء في أوروبا”.

وأشار مرعب في الشق اللبناني للموضوع انه “بامكان الدولة اللبنانية ايجاد حل نهائي لمكتومي القيد “من أصل لبناني” بما أن هناك من يتبع لمرسوم تجنيس سنة 1994 في حين أن موضوع عدم حلحلته سياسي وديموغرافي”. أما بالنسبة لموضوع من يهرب من الشباب اللبنانيين نحو اليونان عبر تركيا، هرباً من الوضع المزري، ان الدولة مسؤولة بشكل مطلق وباستطاعتها وحدها ضبط الموضوع. فمن يقوم بتسهيل هذه الرحلات هم مافيات وعصابات ويعتبر جرمهم اتجاراً بالبشر إذ يتقاضون المال ويتركونهم لملاقاة حتفهم وسط البحر، وأحياناً يسلمونهم للسلطات لتعتقلهم. على السلطة أولاً ضبط الحدود ومتابعة المافيات بتقصٍ بسيط الا اذا كان بعض أفراد الدولة شركاء بهذا الجرم. كما على وزارة الخارجية التواصل مع سفارة اليونان لاسترداد المواطنين. ناهيك عن محاربة الفساد وتحسين المعيشة التي دفعت بالمواطنين الى الهروب بالدرجة الأولى”.

ويبقى السؤال مطروحاً حول الموقف الذي سيتبناه وزير الخارجية ناصيف حتّي، أو السلطات المعنية، كي تتم السيطرة على المجموعات التي تقوم باستغلال هؤلاء الأشخاص مادياً في لبنان لتهريبهم الى اليونان، فيما قد اشتد ضغط الأزمة الإقتصادية على الشعب تحت شعار حكومة اختصاصيين غير حزبيين يطلقون مسار الإنقاذ، إلى أن مسّت التحديات الراهنة مسألة “الشعور بالمواطنة”، وصار اللبناني اليوم يمزّق باسبوره ويمضي في رحلة البحث عن وطن.​

المصدر : نداء الوطن .