كتب الشيخ كامل العريضي:
ما حصل بالأمس معرض أن يحدث في كل منطقة، وفي كل يوم، فالسلاح كما بات معلوما لدى الأجهزة الأمنية منتشر وبكثرة بين أيدي الناس سواء الحزبيين منهم أو غيرهم، بالإضافة إلى التدريبات المستمرة تحت عناوين مختلفة بعضها قد يكون صحيحا لحماية الحدود وبعضها يستغل الفوضى لأهداف لا تخدم لبنان التنوع والعيش الواحد والشراكة الحقيقية، في بلد يستحق أن يكون رسالة لا ممرا لرسائل إقليمية ودولية. وهذا يستدعي وقفة حقيقية مع الذات، من الجهات السياسية والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني والمرجعيات الدينيّة وكل من يهتم بالشأن العام، ومن دون ذلك سنبقى نتخبط العشواء، وأرضا خصبة للأسوأ.
حتى الآن، ولم نلملم بعد جراحنا عن سنوات قاحلة وماحلة ومقززة مررنا بها، وتقاتلنا فيها حوالي خمس وعشرين سنة، وكانت ثمرتها مُرة وعلقما. أيها المتعطشون إلى الدماء ألا يكفيكم ١٣٤ ألف ضحية، و ١٧٤١٥ مفقودا، و١٣ ألف معوقا، أتريدون المزيد من سفك الدماء!! وتخريب البلد وتهجير الناس وترويع الآمنين. ألم تهز ضمائركم صور الأطفال المرعوبة والوجلة في المدارس؟صور الأمهات تحت ازيز الرصاص يحتضن فلذات أكبداهن ويحميهن بأجسادهن؟ ماذا نقول لأبناء الشهداء في هذا اليوم وفي كل الأحداث الأمنية الماضية التي حصلت وذهبوا هم ضحيتها بسبب خلاف سياسي؟ أتساءل وإياكم لأنني أخ شهيد نالته يد الغدر بتفجير سيارته أمام بيته عام ٢٠٠٨ هو الشهيد صالح العريضي، ولن استطيع أن أنسى موقفا لابن أخي عندما كان لا يتجاوز السنتين من عمره آنذاك، وهو الآن اصبح يافعا بحمد الله وأتمنى له مستقبلا زاهرا، حيث كان محمولا على يد جده، وفي البيت صورة كبيرة لشقيقي الشهيد على طول قامته الحقيقية فظن الطفل انه أباه فهوى صوبه فاتحا ذراعيه ليحتضن والده حبا وبراءة وعشقا، لم ينحن أبوه نحوه وهو الذي كان يركض صوبه من أول الممر مناجيا إياه بألفاظ الأبوة الحنون؛ فعاد الطفل خائبا منكسفا ولم يدرِ أن التراب يحتضنه بدلا عنه. أما ذاك الجد الجسور والشيخ الوقور أبو صالح فرحان الذي وقف بكل قوته وهيبته وجثة ولده مضرجة بدمائها ممددة على الأرض؛ فقد قال جملته الشهيرة المفعمة بالإيمان والتقوى والرجولة: لو جاؤوني الآن بقاتل ابني صالح لسامحته. ولكن هو ذاته لم يتمالك نفسه بعدما رأى حفيده يعود مكسورا ومكسوفا من عدم ردة فعل صورة ظن أنها جسد والده حقيقة. فهنا اغرورقت عيناه بالدموع، نعم هنا أمام الطفولة تئن الجبال وتبكي الرجال وتنكسر القلوب. إنها لحظات تبقى مدى العمر محفورة ومنقوشة بالفكر والعقل، التي أرجو الله أن لا تمر على أحد منكم، ولولا رحمة الله ورأفته فمن الصعب تحملها والتأقلم معها.
بالله عليكم كفى، بالله عليكم كفى…. نريد أن نحيا معا، نريد لاولادنا ان يبنوا بلدا حقيقيا لا كاذبا، حذار من تسميم أفكار الجيل الناشئ بأفكارنا الموبوءة، نحن لسنا قدوة حسنة، ولا مثالا يحتذى به لهم، إذا دمنا على ما نحن عليه من استعمال مخطئ للسلاح ولوجهته المعاكسة.
أبها السياسيون اختلفوا ما شئتم بالسياسة، ولكن اتقوا الله في أنفسكم وأولادكم وأبناء الناس، اتقوا الله ولا تلعبوا على الوتر الطائفي والديني والمناطقي من أجل مصالح ومكاسب ضيقة وزائلة. وأنت أخي المواطن، كن مع من تريد وأيّد من تشاء ولكن لا تتعصب فالتعصب أعمى، حتى الله يطلب منا أن نعبده ضمن طاقتنا ولا يكلفنا إلا وسعنا في عبادته وطاعته. لا تحمل السلاح ضد أخيك في الوطن، لأنه في النهاية سوف يجلس المتخاصمون على طاولة واحدة ويتفقون وتبقى الأم الثكلى والزوجة المخلصة والأبناء الأيتام ينتظرون رؤية حبيبهم في المنام؛ نعم فقط في الأحلام.
قد يقول قائل مهلا يا هذا انت لم تتكلم ولم تحلل ما جرى ولم تحدد من المسؤول! نعم لم أحلل أخي الكريم وأختي الكريمة، ولم أتكرم وأتفضل بإفراغ ما لديّ من أفكار عظيمة وتحليلات استراتيجية لأنني لا أريد أن استأنف إطلاق الرصاص وتعبئة الناس ولا أسمح لنفسي أن أبث الرعب والهلع في القلوب؛ لانه وللأسف الكثير من المحللين لا يحترمون آذان مستمعيهم وعقولهم. وهنا أناشد وزارة الإعلام ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة التدخل ووضع حد واضح لمثل هؤلاء لأنهم يفعلون ما يعحز عنه الرصاص والمدفع في كثير من الأحيان. فالمحلل عليه أن يتكلم عن وقائع لا تخيلات ومن خلال معلومات موثقة لا أوهام وآراء شخصية، ودراسات علمية وسياسية دقيقة لا أمان وتمنيات.
سأبقى أعلم أولادي حب الوطن كل الوطن، سأبقى أعلم تلاميذي حب الإنسان والإنسانية، سأبقى أطالب بدولة مدنية تحترم المواطن بناء على الكفاءة والخبرة لا التقسيمات الطائفية، وتحفظ حق الشعائر الدينية طالما لا تخل بالأمن العام وهيبة الدولة.
نريد لبناننا رسالة حقيقية لا ممرا للرسائل…
بالله عليكم كفى…. كفى…. كفى…