يوم سَقَطَتْ الدولة ودُمِرَتْ بيروت

كتب جورج يونس

في ذلك اليوم، تفجرت العاصمة وتطايرت الدولة! في ذلك المساء، تناثر وَهْمُ المؤسسات وَزَهَرَتْ براعم الأمل من رَيَعان شباب وشابات حملوا اشلاءهم والمكانس لإنقاذ ما تبقى من الوطن في المنطقة التي طالما شكلت رمز الفرح والثقافة والحياة والعشق والسهر بالنسبة لهم خصوصاً وبالنسبة لكل لبناني عموماً. يومها صرخ شعبي مرة أخرى عبر دمائه التي تبعثرت في محيط مرفأ بيروت “بحبك يا لبنان يا وطني بحبك”!

4 آب 2020، هو اليوم الذي أسكت فيه شعبي كل المتطاولين على كبوته. يومها حفرت البطولة ذكراها بأحرف من ذهب عبر شاشات التلفزة المحلية والعالمية. في تلك الليلة، شهد العالم أجمع على عقم مؤسسات الدولة عندنا وعلى غياب القيادة المتماسكة وعلى إنعدام الأفق وروح المسؤولية عند كامل الهرم السلطوي والحزبي، بعدما أصيبوا أجمعين بغيبوبة اللاوقعية فأختفوا عن السمع وإختبؤوا خلف فداحة إجرامهم وإهمالهم الغير مسبوقين في العالم.

في ذلك المساء المشؤوم أخْرَسَ شعبي وبقوة، افواه اولئك المتشدقين الذي لم يكفوا يوماً عن إتهامهِ بالتخاذل والتبعية وحَصْدِ المنافع الانتخابية. يومها إنتفض شعبي المذبوح من وسط الدمار والنكبة ليثبت للعالم أنه لا زال قادراً على إجتراح القيامة من وسط الموت والنار. في تلك الليلة، وحده شعبي صُرِعَ، ذُبِحَ، نزف، مات، سالت دماؤه على الطرقات، خسر بيته وسياراته وبعض أمواله المخبأة من مصارف الوهم التي سلبت مع مافيا السياسة جنى عمره، ومع ذلك حمل جروحه ودمائه ونزل يساعد الجرحى والمصدومين، ثم حمل المكانس ليزيل الركام، عاضد بعضه البعض بالكلمة والعطف والمأكل والملبس، وبعده بدأ بمفرده رحلة الترميم فيما بعض الإنتهازيين والنافذين كانوا منهمكين بالفلسفة على أوجاعه المتراكمة وسرقة المساعدات الدولية. يومها أيضاً، رأى أحباءُ قلوبنا أنفسهم متروكين مجدداً لمصيرهم المشؤوم، في ظل غياب تام لمؤسسات الدولة وإنبعاث روح النخوة والتعاضد والعونة والمبادرات الخاصة عند هذا الشعب المشلع الأطراف، فكان أن شاهد العالم بأُمِ العين كيف لمن إتُهِمَ بالتخاذل والتهاون والإستسلام أن يجسد أسطورة طير الفينيق بملحمة بطولية غير مسبوقة.

نعم يا سادة، إنه نفس الشعب الذي ما برحتم تلومونه لأنه أضحى صامتاً بنظركم ومستسلماً أمام تمادي زعران السلطة وزعماء الميليشيات. إنه ذلك الشعب العظيم الذي ما زلتم تتطاولون على جروحه المتراكمة منذ أكثر من 46 سنة، وكأنه لم يصب بالخيبة يوماً. هذا الشعب، شبهته بإنسان قاوم الغرق لأيام عديدة وسط أمواج وسكون البحر حتى أصيب بالإنهاك التام فأضحى عندها همه الأوحد البقاء حياً، لكن سوء الطالع حَمَلَ إليهِ قرش تائه ليأكله تماماً كما حصل مع أهل بيروت بُعَيْدَ تفجير 4 آب. شعبي يا جهابذة التنظير، سليل فخر الدين ويوسف بك كرم وبربرآغا وطانيوس شاهين وريمون إده وكميل شمعون وبشير الجميل وشارل مالك والمفتي حسن خالد وميشال شيحا وجبران خليل جبران وحسن كامل الصباح وإبراهيم عبد العال ومحمد الجسر. إنه نفس الشعب الذي تستغربون عدم إنتفاضته على جلاديه في هذه الأيام السوداء التي تغزوها غربان زعماء الحرب.

لكل متفلسف يستهتر بتضحيات اللبنانيين، ولكل شخص لبناني او أجنبي ينعت شعبي بأوصاف التخاذل والإستسلام أقول: “إذا “أنتم” أقوى وأدرى بواقع الحال فلماذا لا تبادروا وتقتحموا منازل الفاسدين وتغزوا الطرقات بمظاهرات الحق؟ إذا “أنتم” أصلب وأكثر كرامة لما لا تبادروا وتقتلعوا الطبقة الحاكمة من جذورها وقصورها؟ لما لا تهاجموهم “أنتم” في شركاتهم ومقراتهم؟ لما لا تعترضون “أنتم” مواكبهم الفارهة وتَقِضون مضاجعهم أينما حلوا؟ أما وقد قررتم فقط التنظير، على شعب إنهك من النضال وإفتراش الساحات والتضحيات والخيبات، فما “أنتم” أكثر من أولئك الذين قيل بهم: وإن بليتم بالمعاصي فإستتروا”.

الحق اقول لكم، أن ما من شعب تعرض وأصيب بنكبات وخيبات وإنكسارات كشعب لبنان ولفترة 46 سنة متواصلة. هو رغم كل النكسات، بقيَ يمتلك القدرة على الإستمرار والنهوض والمواجهة. فمنذ 13 نيسان 1975 وشعبي يقدم الغالي والرخيص في سبيل الوطن الذي يحلم به. بيوته دمرت ورممت عدة مرات، سياراته وممتلكاته ومؤسساته وشركاته نهبت وإحترقت عشرات المرات، رفاقه وأصدقاؤه وأحبابه بات الكثير منهم من سكان القبور، زعماؤه الذين آمن بهم إما إغتيلوا أو هجروا أو نهبوه ليسكنوا القصور بعد أن خيبوا أماله، قضيته أصبحت قميص عثمان لكل عميل يمتهن التبعية على حساب الوطن ومصالح اللبنانيين، دماؤه اضحت متخاوية، بالرغم من تنوعة الطائفي، لكثرة ما تبرع به لبعضه البعض لتضميد جروح الحروب وندوب التفجيرات، أمواله سلبت بالضرائب والخوات والنهب المنظم وأخرها مصادرة جنى عمره من قبل القطاع المصرفي، أراضيه وشركاته ومشاعات عاصمته ووطنه صودرت بوضع اليد والتشبيح الممنهج من قبل سلطات الأمر الواقع، فرص العمل سرقت منه لإنهاكه بالبطالة والإستزلام بعدما أنهكوا إقتصاده بالديون وسهلوا دخول اللاجئين والنازحين طمعاً بكسب دنيء جراء إستعطاء المساعدات الدولية لإيوائهم. شعبي يا فطاحل المواجهة أكلته هجرة شبابه في سبيل مستقبل أفضل وفرص نجاح فعلية في غربة يسود فيها القانون على المحسوبية، ثم طارده مسؤولي الغفلة بالذل حتى في غربته بسبب قصر نظرهم وتبعيتهم للخارج ولمصالحهم الخاصة فحاولوا بغباء تدمير صورة النجاح اللبناني التي بنيناها بالعرق في بلاد الإغتراب، كما دَفَنَ إبداعه وتفوقه بالإرتهان والتبعية لزعماء الغفلة لضمان وظيفة او مصلحة تؤمن حداً أدنى من أسس الحياة، ومن ثم سرقت ثورته يوم قرر الإنتفاض على كل المنظومة السياسية والحزبية فتكتلت مافيات السلطة والمال لإختراق الثورة ولتدمير ريح التغيير بعد أن غزا شعبي كافة طرقات الوطن.

لكل متطاول من الداخل والخارج على جراح شعبي وكبوته، أصمت حتى يخجل الصمت، فمن يأكل العصي ليس كمن يعدها او يتفرج عليها. ومن يُسْتَهْدَفْ من السلطة وأحزابها لإختراق ثورته وتدمير ثقة الناس بها وتشتيت تكاتفها عبر خلق مجموعات متناحرة يحكمها الأنا وهوس الوصول الى السلطة، ليس كذلك المنظر من خلف التلفاز. كفوا تماديكم على عذاباته، وأنتم لا زلتم كل لحظة تصرخون لجلده بحجة أنه يستحق ما وصل إليه فيما نحن نأكل طرقات الوطن بالنضال! أفلا يكفي شعبنا خيباته وما قدمه على مر السنين السابقة ليتحفه منظرو المصالح والصالونات بنظرياتهم الغير عادلة، وبتحقيرهم لحياة الذل التي وصل اليها بسبب من يريدونه أن يموت عنهم ليتنعموا هم بوطن معاف. خسئتم وأنتم تجلدونه في حين لا أحقية لكم لملامته إلا حينما تقدمون له بديلاً ناجعاً لمواجهة الفاسدين والمعاناة وسط مخالب البطالة والفقر والفساد.

حتى ذلك الحين، يبقى شعبي حاملاً لصليبه فيما يستمر فلاسفة العصر عندنا، ممن لا يعرفون معنى الحياء والنضال وساحاته، بصراخهم: “أصلبوه أصلبوه”!
هلقد بحبك يا لبنان