كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:
سينتهي العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. إسرائيل ستكتشف ما فعلته سنين الاحتلال في أجيال الفلسطينيين من صلابة وانتماء وقوّة، وإيمانهم بالقدرة على ترتيب المشهد المختلّ وفقاً لحقائق التاريخ لا زيف السياسات والمصالح. سينتهي العدوان وإن على دماء وضحايا وآلام باتت جزءاً من الوعي والهوية الفلسطينية.
هنا، في لبنان، بانتظار من سيخرج ليوظّف «الانتصار» لمصلحته، ويطالب الشعب بالمزيد من الخضوع لهيمنته، يبقى المشهد أسير الجمود والفشل والزبائنيّة المتعاظمة يوماً بعر آخر، ففي غياب أسباب الحياة الضرورية من محروقات ودواء وسلع حياتيّة، حتى اللقاحات، تعمل أحزاب المنظومة على الإفادة من الوضع الراهن لتعيد إنتاج هيمنتها تحضيراً للانتخابات عبر شراء الولاءات التي سبق أن اهتزّت قبل أكثر من عام في ساحات لبنان.
سيناريوات الانهيار
وفق المتداول، قد تذهب الأمور عند أطراف المنظومة إلى ترتيب أوراق داخلي سريع على قاعدة ضمان تقاسم الجبنة، وعدم فلتان المأزق السياسي باتجاهات غير محسوبة في ظل الأفق المسدود، وقد يترجم هذا السيناريو بتشكيل حكومة وفق صيغ ملتبسة، أما سيناريو اعتذار الرئيس المكلّف سعد الحريري وتكليف آخر، فيبقى، لأسباب عدّة، افتراضات دونها ضرورة امتلاك أي مرشح آخر لمقومات الضغط على المعطلين لتشكيل حكومةِ إنقاذ وليس حكومة لخدمة مصالح وحسابات جبران باسيل، أما السيناريو الأكثر جديّة فالذهاب نحو مزيد من الانهيار والتفكّك والاستنزاف وصولاً للانفجار الكبير، مع ما يحمله هذا السيناريو من مخاطر تحوّل لبنان إلى ساحة تفجير، ومنطلقاً لكل ما يزعزع الأمن الإقليمي والمتوسطي والأوروبي.
لا جدوى من انتظار خرق الجمود، فعلى مدى أكثر من عام لم تفلح بيانات المجموعة الدولية لدعم لبنان، ولا تحذيرات الخارجية الفرنسية، ولا عقوبات الإدارة الأميركية، ولا تمنيات الكرسي الرسولي، ولا تلويحات الاتحاد الأوروبي، ولا قلق الدول العربية، واستغراب هؤلاء جميعاً كيف أن بلداً مفلساً ويقبع في قعر الهاوية لا يزال مسؤولوه يتصرفون بهذه الطريقة من الخفّة واللامسؤولية، ولا يعطون الأولوية للقضايا الوطنية والاقتصادية والماليّة! ثمّة قناعة، لا مبرر لها طبعاً، لدى الأسرة الدولية والعالم العربي بعدم جدوى الضغط الشديد على المنظومة المتحكّمة في لبنان، وهذا يدفع إلى التفكير في بدائل للاعتراض والضغط للخروج من المأزق ولصون بقاء هذا البلد.. في خطة طوارئ وطنية عاجلة لا تستند إلى ثوابت العمل السياسي اللبناني التقليدي القائم على الابتزاز والمساومات والفساد والمحاصصة ودوس الدستور، بل إلى معايير أخرى، وما عداه هدرٌ للوقت والفرص.
ماذا عن البدائل؟
تفترضُ الواقعيّة السياسية، بل والمسؤولية الوطنيّة، الاعتراف بأن إفلاس الطبقة المتحكّمة من جهة، ومن جهة ثانية وصول الثورة الى حلقة مفرغة من تكرار الشعارات الكبرى عن السيادة والفساد والتغيير، وتعويلها المبالغ به (وغير الواقعي أساساً) على مجهول خارجي، وافتراضها بأنه سيهرع باتجاه محاورتها وتسليمها السلطة، ومن جهة ثالثة تورّط الطرفين بأخذ نقاشات الأزمة في كثير من الأحيان باتجاهات فرعيّة، ثانويّة، أو مستحيلة التحقّق.. كل ذلك يوصل لذات الغاية من بقاء لبنان في دوامة الاستنزاف، لكنه يؤكد مجدداً ضرورة الخروج من صندوق الانسداد، والذهاب باتجاهات جديدة في صياغة مبادرات الإنقاذ، إذ لا يعقل التسليم بأن البلد خلا من حكماء ورجال دولة وحريصين على ديمومته وبقائه، وأن شعبه بات محكوماً بالهجرة بحثاً عن الحياة!
لا يمكن التسليم باستحالة إستقالة رئيس الجمهورية لأعذار واهية، لأي سبب كان، والجميع يعلم أن هذا العهد كان نحساً وبؤساً على كل اللبنانيين، والاستقالة والحال هذه عندما تحصل ستكون فعلاً وطنياً خالصاً!
ولا يمكن القبول باستحالة اعتذار الرئيس المكلف، كموقف وطني بوجه المعرقلين، ووضعهم أمام مساءلة الشعب.. أما البدائل فموجودة.
ولا يمكن الإقرار بأن أي انتخابات نيابية إن حصلت ستحصل وفق القانون المسخ الذي أجريت على أساسه في 2018 لضمان وصول موتورين وفاسدين إلى الندوة النيابية، وبالتالي استحالة إجراء الاستحقاق وفق قواعد نزاهة وعدالة تؤمن إنتاج سلطة تتمتع بالشرعية!
ولا يمكن الرضا بأن ودائع اللبنانيين بالعملة الأجنبية التي بلغت حتى نهاية العام 2019 نحو 112 مليار دولار قد تبخّرت بسبب تمنّع لبنان عن سداد 9 مليارات دولار سندات يوروبوندز فقط! وأن لا وزارة المالية، ولا مصرف لبنان، ولا البنوك الخاصة تجيب عن سؤال محوري وجوهري ويمس مصالح أكثر من مليوني لبناني، أين تبخرت الـ72 مليار دولار التي استفادت منها المصارف نتيجة الهندسات المالية؟
ولا يمكن التسليم بـ«شرعنة» عزلة لبنان عن الشرعيتين العربية والدولية بذريعة أن حزباً أو ميليشيا اختطف السيادة، واحتجز المؤسسات، ورهن مصالح لبنان لمحاور خارجيّة!
ولا يمكن أن يترك الاقتصاد وحركة الأسواق وجداول الأسعار والمعابر الحدودية وحيوات الناس رهينة مافيات السوق السوداء والتهريب، واكتفاء السلطة والأجهزة بموقف المتفرّج على موت المجتمع!
في تقرير لـ«الدولية للمعلومات»، فقد غادر لبنان العام الماضي 100 الف (عاملة منزلية) من اصل 270 الفا، نتيجة عدم قدرة المواطن على دفع الراتب الشهري 150 دولارا، وتراجَع سفر العائلات اللبنانية من اجل السياحة بنسبة 95% حيث كانت اكثر من 70000 عائلة تسافر سنويا، ولبنان الذي استورد في العام 2018 نحو 33000 سيارة، تراجع فيه هذا الرقم إلى 21000 في العام 2019، فـ6200 سيارة في العام 2020، و600 سيارة فقط في الربع الأول من 2021 (في شهر نيسان جرى بيع سيارة واحدة فقط).
خارج قوانين الطبيعة
في لبنان، لا تقاس الأمور دائماً وفق القوانين المتعارف عليها، كما أنه لا يمكن تفسير ما يجري فيه بشكل علمي أيضاً، لأن إدارة الشأن العام محكومة بالفساد وغياب الدولة وانتفاء الرقابة أو المحاسبة.. أي بالتحلّل الكامل لمنطق الدولة، وهذا الواقع يفترض حلولاً من خارج ما هو مطروح.
إن تراكم المشكلات والتراجعات والانهيارات والتحديات التي تواجه لبنان، ومعها انسداد أفق الحلول الداخلية وفشل اعتماد سياسات جادة لمكافحة الفساد كمدخل لاستمرار المساعدات الخارجية وحصر تداعيات الفجوة القائمة.. كل ذلك يفرض تحديات كيانيّة، ويستوجب مراجعات عميقة، لا يبدو أن أحداً من متصدّري المشهد مؤهلاً لها. باختصار، ليست المشكلة في فساد طبقة سلطوية معينة، بل في منظمة شاملة تؤمن استمرارية بعضها بعضاً. الاستنزاف القائم هو نهاية طبيعية لفكر المزرعة، ونتيجة حتمية لسكوت الشعب.
لقد بات لزاماً طرح خطّة طوارئ إنقاذيّة متكاملة تقوم على مراجعة شاملة وعميقة لكل السياسات، الاقتصادية والمالية والاجتماعية والبيئية والثقافية والتعليمية والتنموية، وقبلها جميعاً استعادة معنى الدستور والميثاق ومرجعية الدولة والمواطنة وسيادة القانون ودورة الانتاج ومكافحة الفساد، وأن يقوم بها ويتولاها موثوقون في وطنيتهم وانتمائهم وغاياتهم، فحتى الآن يبدو الحديث عن الفساد والإهمال والتقصير غير ذي معنى، ببساطة لأن لا أحد من المنظومة يريد الإصلاح، ولا أحد من المقصّرين يخشى المحاسبة، ولا أحد من المتأذّين يريد التمرد والثورة.. وبسبب ذلك يبدو لبنان سائراً بإرادة أبنائه نحو جهنم التي وعدهم بها الرئيس القوي!