كتبت جويل رياشي في “الأنباء الكويتية”:
ثلاثة مكونات اجتماعية لم تتمكن الدولة اللبنانية من توفيرها للشعب اللبناني منذ استقلال البلاد وجلاء الفرنسيين عنها في 1946: التعليم المجاني النوعي للجميع، والنظام التقاعدي الاجتماعي، واهمها الطبابة المجانية للجميع.
كان الأمر مقدورا عليه للأفراد لتدبير شؤونهم، في الضروريات من هذه الركائز الثلاث التي تشكل مدماك الحياة الاجتماعية، ولعل أبرزها الطبابة.
واكتفت الدولة اللبنانية بتوفير الخدمات الطبية عبر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للموظفين في القطاعين الرسمي والخاص، وعبر تعاونية موظفي الدولة لقسم من الموظفين في القطاع العام، الى فتح باب الإفادة من خدمات الطبابة عبر وزارة الصحة لغير المنضوين في الضمان وتعاونية الموظفين، فضلا عن وجود الطبابة العسكرية للجيش اللبناني.
وليس من داع هنا التذكير بما يواجهه الفرد من صعوبات لتسيير شؤونه مع هذه الصناديق، والتي لا تغطي أي منها الفاتورة الاستشفائية كاملة، فيغرق الفرد في الفوارق المالية التي تحتسبها المستشفيات، وتتوزع بين النسبة التي تغطيها الصناديق، الى مصاريف لا تعترف بها، وتعريفات خاصة بالمستشفيات تختلف في شكل كبير عن تلك المحددة من هذه الصناديق.
وكثيرا ما سمعنا ولانزال، عن موت مريض قصد المستشفى في حال الطوارئ عند عتبة أقسام الطوارئ في المستشفيات، لأسباب مالية تتصل بما ذكرناه.
كان هذا من اليوميات اللبنانية في الأحوال الطبيعية. وتمكن جزء من اللبنانيين من تأمين نظام طبي استشفائي عبر شركات التأمين وإعادة التأمين، وصل الى تغطية تكاليف استشفائهم وعائلاتهم كاملة.
واعتبرت خدمات التأمين في متناول الميسورين من غير المضمونين، وممن يريدون تفادي «بهدلة» على اعتاب المستشفيات والانتظام في طوابير أمام مكاتب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في المناطق اللبنانية.
بعد احتجاجات 17 تشرين 2019 غير المسبوقة في تاريخ البلاد، تبدلت أشياء كثيرة، في طليعتها نظام الرعاية الطبية بشقيه الخاص والعام.
وباتت أسعار خدمات التأمين تشكل عبئا في اليوميات، علما انها لم تعد تغطي الفاتورة الاستشفائية كاملة، حاذفة أشياء عدة منها من لائحتها، كعدم تسديد ثمن البنج مثلا في خدمات المنظار، وعدم تغطية تكاليف الجراحة بالمنظار، والاستعاضة عنها بالجراحة التقليدية، الى أشياء أخرى تم حذفها من لائحة التغطية في طليعتها الأدوية الخاصة بالمريض التي يتناولها خارج المستشفى، فيطلب اليه اصطحابها معه.
كل ذلك تلازم مع تحديد سعر خاص بـ«الدولار الاستشفائي» تخطى السعر الرسمي المعتمد من مصرف لبنان البالغ 1515 ليرة لبنانية، وسعر المنصة 3900 ليرة، وصولا الى مطالبة بعض الشركات استيفاء قيمة عقود التأمين بسعر «دولار السوق السوداء»، او بسعر وسطي يتخطى الستة آلاف ليرة ويناهز التسعة آلاف.
هم جديد أضيف الى اليوميات اللبنانية، في هذه الفترة من السنة التي تشهد تجديد قطاعات ونقابات كبرى عقود التأمين السنوية الخاصة بأفرادها وعائلاتهم وأقاربهم، مرفقة بلائحة استثناءات من خدمات طبية، والإشارة اما وضوحا او مواربة الى جعلها على حساب الضامن، وفق تلك التي أشرنا اليها.
نقابتا المحامين وأطباء الأسنان وغيرهما أسست صناديقها التأمينية الخاصة منذ سنوات، بعدما كانت سابقا تتعاقد مع شركات كبرى توفر لها الخدمات الطبية.
لائحة أسعار لكل نقابة تختلف عن الأخرى، لكنها تتقارب في حسبة دقيقة للتكاليف، وهي تعتمد سعرا جديدا لـ«الدولار الاستشفائي»، مع التشديد على عدم التغطية الشاملة تحت شعار «مصاريف إضافية» تدرج في الفواتير الصادرة عن المستشفيات.
الشيء عينه يطالع المضمونين في الصناديق الرسمية، الذين يعانون من التأخير في الحصول على مستحقاتهم من فواتير الأدوية، الى تكبيدهم فروقات مالية في المستشفيات، فضلا عن خسارتهم قيمة تعويضات نهاية الخدمة التي يسددون تعرفتها من رواتبهم على مدار عملهم في المؤسسات الرسمية والخاصة، والتي فقدت الكثير من قيمتها بعد انهيار سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار الأميركي.
في الجهة الأخرى، تشكو المستشفيات وطواقمها من تراجع قيمة رواتبهم جراء انهيار سعر صرف العملة الوطنية.
وبات أطباء وممرضات وممرضين عدة على «لائحة انتظار» تلقي عروض من الخارج سعيا لتوفير ظروف معيشية أفضل لهم ولعائلاتهم.
في حين يدرس عدد من إدارات المستشفيات اتخاذ خطوات تقشفية لتأمين استمراريتها، بينما لا يتردد البعض في المجاهرة بالسعي الى الإقفال لتفادي الخسائر في الزمن الأصعب اقتصاديا.
الخدمات الطبية لم تكن يوما ترفا لمواطني «مستشفى الشرق» الذي فقد اليوم ميزة لطالما شكلت عائدا ماليا تحت شعار «السياحة الطبية». وبات البحث محصورا في تأمين صمود الحد الأدنى في انتظار عبور مرحلة قد يتأخر الخروج منها.