كتب زكي طه
وسط قلق اللبنانيين وخوفهم من مخاطر تجدد الاقتتال، تمر الذكرى السادسة والاربعين لانفجار البُنية اللبنانية في صيغة حرب اهلية مفتوحة. والتي بدأت جولاتها الأولى في 13 نيسان 1975، حيث تقابلت في حينها رايات الدفاع عن السيادة والنظام والصيغة، ورايات الاصلاح والتغيير وعروبة لبنان. من الجائر القول ما اشبه اليوم بالبارحة، نظراً للإختلاف الجوهري بين ما كان، وما هو راهن من الوقائع والمعطيات وطبيعة الأهداف وجملة الظروف المحيطة. وعليه، لسنا بصدد التحسر على ما كان مجيداً في تلك المرحلة، والهروب مما احتشد في امتدادها من أخطاء وخطايا لم تزل تتوالى، عدا أن أحداً لم ينج من الوقوع فيها.
والتاريخ غير قابل للتصويب، لكن العودة إليه وحُسن قراءته ومراجعته تبقى دوماً مصدر حصانة لعدم تكرار الرهانات الخاطئة والأوهام التي نجمت عن قصور في الرؤية والوعي، لمحاذرة الوقوع ثانية في استسهال تحقيق الأهداف وتبسيط التحديات. أما الهروب من هذه المهمة فهو أقصر الطرق لإدمان التبرير والتعمية على مسؤوليتنا كبشر وقوى، ومواصلة الإقامة المديدة بين المهزلة والمأساة وأوهام الفوز بما هو مستحيل.
صحيح، أن القيّمين على الكيان والنظام بأجنحتهم كافة، قد اقفلوا أبواب الاصلاح، وأن الطرف المهيمن بينهم استسهل خوض معركة الدفاع عن نظامه بكل ما يملك من اسلحة رسمية وأهلية. دفاع ليس فقط عن صيغة النظام وتوازناته المختلة فحسب، إنما عن موقعه وامتيازاته وهيمنته الطائفية التي لم تاتِ من فراغ، بقدر ما كان لها سياقها التاريخي. والصحيح أيضاً أن هذا الجناح حاول التحصن بمعادلة الانفتاح الاقتصادي على محيطه العربي، مقابل رفض تحمّل لبنان أي قسط من اكلاف القضية الفلسطينية ومضاعفاتها بعد هزيمة العام 1967، خوفاً من تبدل موازين القوى والانقلاب عليه. ولذلك اعتمد خيار الهجوم المسلح تحت وهم أنه افضل وسائل الدفاع.
وفي المقابل، من الصحيح أيضاً، أن طموحات وحاجات اكثرية اللبنانيين، دفعت بهم إلى ميادين النضال الوطني والمطلبي. وقد احتشدوا في حركة اتسعت صفوف المشاركين فيها لتشمل قطاعات وفئات اجتماعية متعددة بلغت سائر المناطق، لتتشكل في محصلتها شعبية احتجاجية متنامية، أخذت تباعاً تحاصر معاقل النظام. بعض أجنحتها نادى باصلاح النظام الطائفي، وتوزعت بين طلب المشاركة والمطالبة بحقوق الطوائف المحرومة. أما الجناح الغالب المتمثل بالاحزاب والقوى الاجتماعية واليسارية فقد رفع سقف مطالبه وطرح قضية التغيير وتحديث النظام السياسي، وصاغ وأعلن برنامجاً مرحلياً للتغيير الديمقراطي على رافعة الحركة التي قادها وتصدر صفوفها. ما شكل المحاولة الأهم في تاريخ التجارب الاصلاحية.
ومن الصحيح في هذا السياق، القول أن الاحتشاد المتصاعد من مختلف الضفاف والجهات والاتجاهات واحتدام الصراع بينها، في ظل البنية الطائفية والعشائرية الموروثة، وتفاعل سلبيات الإشكاليات المستمرة التي رافقت تأسيس الكيان حول هويته الوطنية وعلاقته بمحيطه.. قد أسر بالتباساته وقيوده الطائفية جميع الاطراف ودفعها للتحصن في مواقعها. أما الانفجار فقد كان أمراً متوقعاً وحتمياً لأن الجميع كان جاهزاً للاندفاع كل في مغامرتة الانتحارية، يحدوهم أمل الفوز عما يدافعون عنه أو يطمحون لتحقيقه. ولذلك لم يترددوا في الاستقواء، بما هو متاح لهم من قوى وامكانات جاهزة، توزعت بداية بين الجيش وأجهزة الدولة الرسمية مقابل السلاح الفلسطيني المحاصر عربياً، والباحث عن موطىء قدم لقضيته وثورته. ومع تطور هذا الإستقواء ضمن ديناميات الصراع في المنطقة بأسرها، كانت مسلسلات الموت والدمار، وقد تحوّل البلد معها ساحة مفتوحة لصراعات اقليمية ـ دولية وحروب كارثية، اختلط فيها الداخل بالخارج وتشابك الحلفاء والاصدقاء بالأعداء. أما المضاعفات، ففصولها لم تزل تتوالى دون انقطاع في مختلف المجالات.
كما وأن الامعان في الأخطاء وقد تحوّلت خطايا بحق البلد واللبنانيين، لم يزل موضع تنافس وتسابق الجميع على ارتكابها والإيغال من شتى المواقع الطائفية، وسط تناسل أوهام الغلبة أو الفوز بانتصارات مستحيلة لمشاريعهم الانتحارية، لأن الاسترهان والاستقواء بالخارج يُبقي مصالحه فوق كل اعتبار..
لقد بات من الاحلام استعادة ما كان وما ضاع في دهاليز الطوائف وكهوفها، سواء تعلق الأمر بصيغة نظام لا تقفل التباساته أبواب التطور والتقدم الاجتماعي، ومعها مؤسسات واجهزة دولة قابلة للاصلاح الديمقرطي. أو حركة شعبية ديمقراطية مجيدة شكلت حاملة لمشروع التغيير لم يتبق من معالمها سوى برنامج معلق على حنين العودة إليه. أما الازدهار العمراني والاقتصادي وإن كان مختلاً ومعه قطاعات خدماتية رائدة، فقد ذهب مع خيارات الانعزال عن العرب وبات أثراً بعد عين، وسط الحصار والعقوبات. بينما المساحات المشتركة بين اللبنانيين وما كان محققاً من انفتاح وتقدم وحداثة فقد اصبحت من الذكريات التي يحاصرها التحريض الطائفي والانقسام الأهلي.
إن الالتباسات الطائفية التي كانت، لا تقلل أبداً من نُبل الاهداف وسمو القضايا الوطنية رغم اختلاف المواقع والخلافات بشأنها وحولها، ولا من أهمية ما واكبها من حوارات وسجالات وطموحات، أو وزن ما حشدته من قوى مجتمعية تسابقت طوعاً للمشاركة في النضال من أجلها، والمغامرة في سبيلها، ما ساهم في جعل قادتها وقاعدتها من شتى الاتجاهات، لا يترددون في خوض معاركهم.
أما الراهن من الأهداف والمصالح التي تطرح في سياق مشاريع، فلا صلة لها بالبلد وحتى بحقوق الطوائف التي تستظل راياتها. وهي لا تعني سوى أصحابها الذين يتصارعون من أجلها، ويأسرون البلد بشعاراتهم الشعبوية والعنصرية، والعودة به إلى عصور الانحطاط والنزاعات القبلية والطائفية. وإلى إعلاء بيارق الانعزال والارتهان للخارج ومشاريعه، رغم مسيرة الآلام المستمرة، ووسط تكرار مسارات التعطيل التي قادت البلد من الانهيار إلى الجحيم في شتى المجالات.
ورغم أن تاريخ اللبنانيين هو تاريخ أزماتهم ومعاناتهم وتكرار مآسيهم، فإن فترات الهدوء التي أعقبت التسويات المؤقتة، قد أثبتت أنهم جديرون بالحياة كأي شعب آخر، وأنهم يمتلكون القدرة على إعادة البناء وطموحات التطلع إلى الأمام. أما عجزهم عن تجاوز قيود الطائفية الغليظة والخروج من أسر انقساماتها، فمرده هروبهم المستمر من مراجعة تجاربهم ونقد اخطائهم وخطاياهم. وهذا ما يمدد إقامتهم بين وهم التغيير السهل وتكرار محاولاتهم المحكومة بالفشل، وبين انتظار تسويات مؤقتة تأتيهم من الخارج سرعان ما تنفجر بين أيديهم وتجدد مآساتهم.
من المؤكد أن شعار “تنذكر وما تنعاد”، لم يشكل حصانة في مواجهة شبح الحرب الأهلية الزاحفة مع كل احتمالات مخاطرها. وهو لم يكن كافياً لإعاقة خيارات أو وقف اندفاعة منظومة القوى المليشياوية المتحكمة بالبلد والمتحدرة إليه من مراحل سابقة، ولا الحد من تلاعبها وعبثها بمصالحه الوطنية والاستهانة بمصيره. ولأن ما تسببت به من الخراب السياسي والفوضى والجوع الذي يخنق اللبنانيين ويطبق على أنفاسهم لا يمكن أن يشكل مبرراً لنعي البلد، أو نفض اليد منه بداعي اليأس. وأخيراً، الإنقاذ يبقى المدخل الوحيد للخلاص، إما أن يحققه اللبنانيون أو لا يتحقق أبداً. أما حقوق الطوائف ومصالح الحكام وصيغ التسويات وشكل الحكومات، فإنها لم ولن ترقى إلى مستوى بقاء البلد وطناً لابنائه، لأنه كان وسيظل قضية تستحق النضال من أجلها والتضحية في سبيلها…