الفيدرالية هي شكل من أشكال الدول المركّبة، يتخلى فيه عدد من الدول عن شخصيتها الدولية لمصلحة دولة مركزية. وهذه الدولة المركزية هي التي تملك الشخصية الدولية لتختفي خلفها الدول المتحدة ونكون أمام دولة واحدة على الصعيد الدولي. بالمقابل، تحتفظ الدول المتحدة باستقلالها على الصعيد الداخلي، فتنظم كل واحدة شؤونها الداخلية باستقلال عن الدول الأخرى إنما مع احترام الدستور الفيدرالي والقوانين الفيدرالية التي تسمو فوق القوانين الداخلية. وتتولى الحكومة المركزية السياسة الخارجية والدفاع بالإضافة إلى الشؤون المالية كتحصيل الضرائب ووضع الموازنة الفيدرالية. وبالتالي يخضع المواطن في الدول الفيدرالية لنظام قانوني وقضائي مزدوج: من جهة يخضع للقوانين الداخلية للدولة التي ينتمي إليها، ومن جهة أخرى للقوانين الفيدرالية المركزية.
إذن، قد تنشأ الفيدرالية من إرادة عدد من الدول المتنوعة جغرافياً وثقافياً تقرر الاتحاد في ما بينها لتولد دولة جديدة مركزية تتمتع بقوة أكبر ومكانة أعلى على الصعيد الدولي. وهذه الدول لا تكون متجانسة ومتساوية قبل اتحادها، وإلا لكانت اختارت الاندماج ضمن دولة موحدة. فالصيغة الفيدرالية تضمن الحفاظ على الخصائص والميزات الداخلية لكل دولة من الدول الداخلة في الاتحاد، وفي الوقت نفسه ضمان الانتماء إلى دولة يكسبها هذا الاتحاد مكانة أرفع بين الدول. فالفيدرالية تقوم على تكريس التعددية والتنوع، وهذا مصدر إثراء للدولة على عدة مستويات منها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإدارية.
وقد أثبتت التجارب أن الفيدراليات بمعظمها قد نجحت في تكوين أمم كبيرة، أي تكوين خصائص مشتركة وشعور جماعي بالانتماء إلى هذه الأمة وإرادة عيش مشترك، وغالبيتها أنهت حِقب صراع طويلة ودمجت شعوباً وغرست شعوراً كبيراً بالمواطنة. ومن أهم الأمثلة الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وسويسرا وبلجيكا وغيرها من عشرات الدول.
لكن هناك حالات أخرى نشأت فيها الفيدرالية نتيجة مسار معاكس، أي نتيجة تفكك وطن من الأوطان، فشل مواطنوه في تكوين أمة نتيجة لعوامل متعددة، فطالب سكان عدد من مقاطعاته بالاستقلال، وكانت الفدرالية حلّاً يلجؤون إليه لفشلهم في الوصول إلى الاندماج. وقد تكون الفيدرالية ستاراً يخفي تباينات كبيرة وقد يؤدي إلى حروب بسبب حالة عدم الاستقرار تلك. وهذا هو حال العراق مع الأكراد، حيث الفيدرالية لم تكن نتيجة توافق بل هي محلّ نزاع ونتيجة رفض الأكراد للدولة العراقية التي عانوا داخلها ما عانوا.
ما هو الحال في لبنان؟ هل تشكل الفيدرالية حلاً لنزاعاته المستمرة؟
منذ زوال الإمارة، واللبنانيون يعيشون حروباً وفتناً تهدأ لسنوات لتعود وتندلع من جديد مخلّفة انقسامات حادة داخل المجتمع ومرسّخة التدخلات الأجنبية أكثر فأكثر. ففي كل مرّة تؤدي الاعتداءات والمجازر المتبادلة إلى فرز سكاني جديد وتتجذر الحاجة إلى حماية الدول الأجنبية أو إلى رعايتها لتهدئة الأوضاع وإعادة الأمور إلى مجاريها. لكن هذه الأمور للأسف لا تعود إلى ما كانت عليه سابقاً وفي كل مرة تلجأ الدول لاختراع نظام جديد يراعي مصالحها هي، أكثر مما يراعي مصلحة اللبنانيين أنفسهم، فتعود الأمور لتنفجر من جديد وهكذا دواليك فلا تكون سنوات السلم إلا فترات هدنة بين فتنتين. وفي كل مرة يزيد الشرخ ويتعمّق بين اللبنانيين حتى انتفى الشعور بالمواطنة أي بالانتماء إلى وطن واحد وتكوين أمة واحدة ينصهر المواطنون داخلها ليصبحوا شعباً واحداً. وصار الانتماء الأقوى هو إلى الطوائف وأضحى اللبنانيون مجموعة من الطوائف، يخاف بعضُها من بعض، كل واحدة تلجأ إلى جهة خارجية لتحميها من الآخرين.
من هنا، رأى البعض أن الفيدرالية هي الحل. فيبقى لبنان دولة واحدة على الصعيد الدولي لكن يكون لكل طائفة (المقصود بهذا الطرح المسيحيون من جهة والمسلمون من جهة أخرى) كانتونها الخاص، تمارس فيه خصائصها بحرية ولا تكون ملزمة بطروحات الآخرين ولا تُلزم الآخرين بخياراتها. في الظاهر، يبدو هذا الطرح حلاً معقولاً خاصة بالنسبة إلى المسيحيين. فهؤلاء (أو من منهم اقتنع بهذا الخيار ونادى به) أصبحوا يحسون بأن المسلمين يفوقونهم عدداً وربما قوة، خاصة أنهم ضمن محيط عربي يطغى عليه الدين الإسلامي. وبالتالي إن لم تكن لهم دولة مسيحية خالصة، تحميها الدول الغربية، سوف «يبتلعهم» البحر الإسلامي المحيط بهم وسيفقدون هويتهم وخاصيتهم.
لكن الحقيقة هي أن الفيدرالية في لبنان لا مصير لها سوى الحروب والتقسيم وليست كما يزيّنها الدعاة إليها، عن حسن نية أو عن سوئها، السبيل لتأمين ممارسة كل جماعة لثقافتها مع الحفاظ على وطن واحد أو كما يُفترض: أمة واحدة، وذلك لأسباب عديدة:
-أولاً، إن التباينات التي تؤدي إلى النزاعات في لبنان ليست ثقافية وإن كانت تختبئ خلف قناع ديني. هي خلافات سياسية تصل إلى حدّ الخلافات العقائدية في تحديد السياسة الخارجية والدفاعية للبنان، وفي تحديد العدو والحليف. هل إسرائيل هي فعلاً عدو لكل اللبنانيين؟ هل إيران والسعودية وسوريا والولايات المتحدة وفرنسا هي دول حليفة أم عدوّة؟ هل الفلسطيني هو أخ لاجئ أم عدو حاول استبدال القدس ببيروت وجونية؟ فإذا كانت الدولة الاتحادية المركزية هي التي تتولى السياسية الخارجية والدفاع، أي عقيدة ستتبنى؟ ما هو موقفها من سلاح المقاومة؟ مهما كان الموقف الذي ستتخذه، ستكون وضعت نفسها في مواجهة طرف ضد آخر. وإلا ستبقى عرضة للتقاسم والتناتف وبالتالي الشلل تماماً كما هو حال الدولة الآن. لن تكون الدولة المركزية هي الأقوى والأعلى. وبالتالي الفيدرالية لن تحلّ هذه المشكلة الجوهرية بل ستزيدها عمقاً. فعندما ابتكر آباء الدستور الأميركي الفيدرالية، كانوا يهدفون من ورائها إلى التوحيد وليس التقسيم. ورغم تضمين الدستور الأميركي ما يطمئن الولايات إلى استقلالها الذاتي فقد عمل داعمو الاتحاد ومن ضمنهم المحكمة العليا على تدعيم هذا الاتحاد وعلى تمتين الروابط بين الدول وعلى تحريم الانفصال. وقد بيّن التاريخ كم كانوا محقين حيث جعلت هذه الروابط المتينة من الدولة الناشئة حديثاً بين دول ضاربة في التاريخ، أمة عظيمة والدولة الأولى في العالم. وبالتالي، إن التوحد حول الدولة المركزية هو الذي يجعل هذه الدولة قابلة للحياة والاستمرار ومواجهة المخاطر.
– إن الدول التي سوف يضمّها الاتحاد سوف تكون ذات صبغة دينية صرفة، أي دولة مسيحية ودولة إسلامية ربما تتفتت بدورها إلى دولة سنية وأخرى شيعية وربما درزية. هذه الدويلات ستكون قوميتها هي دينها تماماً كما إسرائيل هي ذات قومية يهودية، وكأن منطقتنا لم تكفها إسرائيل واحدة. وستقوم كل دولة بتطهير ديني قسري أو طوعي إذ لا يكون مواطناً يكتسب كامل الحقوق السياسية إلا من كان من دين الدولة. المنطق يقول إن نزوحاً جماعياً متبادلاً سيحصل بين الكانتونات وتشكل كل واحدة منها نظاماً للفصل العنصري تماماً كالدولة الصهيونية. ستقوى الحمايات الدولية لكل كيان منها، والتدخلات الخارجية والنزاعات وبالتالي الحروب. ستكون كيانات عاجزة عن الاستقلال التام، بعضها عن بعض، وعاجزة عن التعايش بسلام.
عندما وصف قداسة البابا بولس الثاني لبنان بأنه رسالة، كان يقصد «لبناناً» تتمازج فيه الطوائف ولا تتعايش بل تعيش وحدة فريدة جميلة تكون نموذجاً للعالم. عندما نشأ لبنان، تميز عن جيرانه بهذا الخليط الذي تصدح فيه المآذن، وتدق أجراس الكنائس، ولا نعرف مَن منا السني ولا الشيعي. يفرح المسلمون في أعياد المسيحيين ويشارك المسيحيون المسلمين أعيادهم.
لقد أدّت الحرب الأهلية التي بدأت سنة 1975 إلى فرز سكاني خطير، فانغلقت مناطق على نفسها وأصبحت تجهل ما يدور في المناطق الأخرى. والإنسان يخاف ما يجهل. ونمت أفكار عنصرية تبشر بتفوق فئة على أخرى. ونادى بعض أصحاب هذه الأفكار بأنهم أصحاب الفضل في نشوء لبنان، لذلك هم من يجب أن يمتلكوا صلاحيات الحكم. هم المتعلمون، المتفوقون، الذين يتقنون اللغات الأجنبية. هم أتباع الدين الذي ينتمي إليه الغرب المتفوق والمتقدم.
خلال الحرب، كنت المسلمة الوحيدة في صفي في المرحلة الثانوية، وأعرف ما معنى أن يكون المجتمع منغلقاً. بسبب اختلاطي بزملائي المسيحيين تطبّعت بالكثير من طبائعهم وتعرفت إلى إيمانهم وعقائدهم. أما هم فبمعظمهم لم يكونوا يعلمون شيئاً عن الدين الإسلامي. كانوا يعجبون لما أنا عليه إذ هم مراهقون أطلوا على الحياة فلم يعاشروا مسلماً ولم يكوّنوا عن المسلمين سوى الفكرة التي زُرعت في رؤوسهم من منظّري الحرب. كانوا يدهشون لما يعرفون أننا نقدس المسيح ومريم، أن بيننا متفوقين مثلهم، أننا لسنا، إن لم نكن الأعداء، «الإخوان الأدنى مرتبة» Leurs frères inférieurs . لكن لما انتهت الحرب، عاد الاختلاط وتغيّرت هذه النظرة. عدنا جيراناً وأصحاباً وإخواناً.
الفيدرالية المطروحة ستؤدي إلى مجتمعات منغلقة، تنظر بعين الريبة إلى الآخرين. سيفقد اللبنانيون ميزتهم في التنوّع والاختلاط وحب الآخر. سنكون أمام انقسامات أفقية وعَمودية على أسس مناطقية وطائفية ضيقة، تؤدي إلى تشكّل كيانات غير قابلة للتعايش، بعضها مع بعض. فمن يضمن أن تبقى هذه الوحدات تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية؟ من يضمن أن تتمكّن هذه الحكومة من اتباع عقيدة تتوحّد حولها كل المكوّنات؟ الأمر المحتّم هو الحرب الدامية التي ستؤدي إلى إنهاء الكيان اللبناني.
إذن، ما الحلّ؟ الحلّ باختصار بتعزيز الشعور بالمواطنة. وهذا لا يكون إلا عندما يشعر المواطن أن وطنه هو من يحميه وليس طائفته. والبداية تكون بتأسيس نظام سياسي يعطي للأفراد حقوقهم دون واسطة جماعاتهم ويعزّز نظام المحاسبة ويدعم النظام التربوي لإنتاج أجيال واعية لا تُساق كالقطعان، ولا تندفع بغرائز دينية أو إيديولوجية، بل تكون قادرة على محاسبة المسؤولين من خلال قانون انتخاب يسمح لها بذلك.
المصدر: الاخبار هالة ابو حمدان