كتبت سلوى البعلبكي في “النهار”:
اكتملت الشبكة القانونية لمكافحة الفساد، وآخرها قانون استعادة الاموال المنهوبة الذي أقر في الجلسة المشتركة للجنتي المال والموازنة والادارة والعدل، وتبقى الآلية و”سائقها”. أهي المؤسسات الرقابية المعيّنة من المتهمين بالفساد؟ ام هو القضاء المعيّن من المنظومة ذاتها؟ أم هي الحكومة العتيدة وما سيليها من حكومات تمثل وفق الاعراف والأمر الواقع السياسي منظومة الفساد والافساد المتحكمة بقرار الدولة ومفاتيح التعيينات ومزاريب الهدر؟ القانون كالإزميل في يد النحات، فإذا ما وُجد النحات البارع حقق بالإزميل غايته، فهل من نحات موثوق بشفافيته واستقلاليته وترفّعه عن المناصب والمنافع يستخدم إزميل القانون لصناعة ما يتوق اللبنانيون الى رؤيته؟! الشكوك بنجاح اهداف هذه القوانين كثيرة، والشواهد لا تبشر بالخير وآخرها إقالة “المتهمين” للقاضي في ملف التحقيق بانفجار المرفأ، فهل مَن سيصدّق ان المنظومة ذاتها التي اوصلت البلاد الى الافلاس والانهيار بسبب فسادها المعلن وتحاصصها الوقح للمال العام، تستطيع أو “تقبل” بمحاكمة نفسها واقالة اتباعها، وإذا ما حلمنا أكثر سجن مريديها واياديها اليمنى في المؤسسات والادارات العامة حيث منابع الهدر والفساد؟… فكيف لآلة الفساد ان تنفذ سياسة مكافحة الفساد؟
أما وقد أقر قانون استعادة الاموال المنهوبة المقدم من تكتل “لبنان القوي” في الجلسة المشتركة للجنتي المال والموازنة والادارة والعدل مع تعديلات اللجنة الفرعية واللجان المشتركة، فإنه سيضاف الى منظومة القوانين الأخرى التي أقرت في مجلس النواب وهي: الاثراء غير المشروع، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وحماية كاشفي الفساد، ورفع السرية المصرفية وحق الوصول الى المعلومات، اضافة الى التحقيق الجنائي الذي صدر أخيرا.
إقرار هذه المنظومة يعني، وفق ما يقول النائب ابرهيم كنعان، ان المجلس النيابي، لا سيما اللجنة الفرعية المنبثقة من اللجان المشتركة ولجنة المال والموازنة، “قامت بواجباتها في هذا الموضوع الاساسي، والمطلوب اقراره في الهيئة العامة، ليبقى الاهم القضاء المستقل والتنفيذ”.
ويقول كنعان لـ”النهار” ان إقرار قانون استعادة الاموال المنهوبة، “يمكّن لبنان من الافادة من التعاون الدولي تحت سقف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، التي انضم اليها لبنان عام 2008 والتي منذ تاريخها لم يصدر أي قانون أو اي اجراء رقابي يضعها موضع التنفيذ. هذا القانون يفتح التعاون حيال التعقب والتقصي واستعادة اموال متأتية من جرائم الفساد مع كل الدول المنضوية تحت سقف هذه الإتفاقية والتي تزيد عن 90 دولة. كما يجعل التعاون القضائي وحتى الاستقصائي من دون اي ضوابط، وهذا امر مهم جدا، خصوصا ان هذا القانون يندرج تحت سقف اتفاقية الامم المتحدة ومبادىء سانتياغو. ووفق القانون تنشأ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المنصوص عليها في القانون الرقم 175/2020 “دائرة إستعادة الأموال المتأتية من جرائم الفساد”، ومن مهماتها التنسيق مع الأجهزة القضائية والرقابية والأمنية، كما مع هيئة التحقيق المنصوص عليها في القانون 44/2015 في ما خص الملاحقات والإخبارات والإدعاءات المتصلة بجرائم الفساد في الشق المتعلّق منها باسترداد الأموال المتأتية من جرائم الفساد. كما ان القانون يقر إنشاء “الصندوق الوطني لإدارة واستثمار الأموال قيد الإستعادة أو المستعادة”، والذي يتمتع بالشخصية المعنوية وبالإستقلالين المالي والإداري، ويستثمر هذه الاموال، وتعييناته خارج اطار السياسة. من هنا فإن هذا القانون، اضافة الى المنظومة التشريعية السابقة، يمكن ان يفتح المجال أكثر ليخطو لبنان جديا في اتجاه استعادة الاموال المنهوبة”.
وعلى رغم التقدم التشريعي والرقابي، لا يزال تقاذف الكرة ما بين السلطة التنفيذية واجهزة الرقابة سيد الموقف، وهو الذي “عطل عملية المحاسبة والشفافية في لبنان”، وفق ما يقول كنعان. فالمجلس النيابي أجرى من خلال لجنة المال رقابة على مدى 10 سنوات، وضغط على الحكومات المتعاقبة وعلى وزارة المال وادارتها لإعادة تكوين حساباتها المالية منذ سنة 1993، وقد ارسلت كل الحسابات منذ 2019 وتبين ان هناك 26 مليار دولار مجهولة المصير. وإذ يكشف كنعان أن “هذا التقرير موجود في ديوان المحاسبة، ولكن لم يصدر حتى الآن اي حكم او تقرير عن الديوان”، يعتبر أن “التشريع وحده لا يمكن أن يحقق النتيجة المطلوبة، بل يجب أن تكون هناك مواكبة جدية من القضاء المستقل ومن الحكومة التي عليها ان تنتظم تحت سقف القوانين لا ان تتجاوزها”… واكثر فإنه يقول: “ليس بالخطط تحارب الحكومات الفساد، ولا بأوراق لا قيمة لها، فمحاربة الفساد تكون من خلال تطبيق القوانين والكشف عن التقارير والمحاسبة، اضافة الى الاجراءات الجدية… كما على السلطة السياسية ان ترفع يدها لنصل الى النتيجة المرجوة. اما تقاذف التهم فهو التواطؤ بعينه، وهو الذي أوصلنا الى ضياع اموال الناس والاموال العامة وضياع الحقيقة”.
تعتبر إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، والتي أصبح لبنان دولة طرفًا فيها منذ عام 2009، أن “استرداد الموجودات” هو ركن من أركان مكافحة الفساد، وقد كرّسته في المادة 51 منها كمبدأ أساسي من مبادئ الإتفاقية، كما أفردت له فصلها الخامس، وضمّنته العديد من الأحكام التي تدعو الدول الى تعزيز منظوماتها القانونية الداخلية وتطوير التعاون في ما بينها في هذا الشأن.
إقرار قانون استعادة اموال الفساد سيساعد في المضي في مكافحة الفساد وذلك عبر وضعه آليات تنفيذية وادوات وتقنيات ضرورية، إلا ان الاهم من ذلك، وفق ما يقول رئيس منظمة “جوستيسيا” المحامي الدكتور بول مرقص، هو “النيّة الحقيقية في مكافحة الفساد واسترداد هذه الأموال، إذ إنّ عدم وجود القانون بحد ذاته لم يكن يوما عائقا أساسيا”. وبرأيه “كان في إمكان لبنان، لو كانت السلطة جادة في موضوع مكافحة الفساد، الافادة من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تتضمن آليات تعاون بين الدول في مجال استعادة الأموال، هذا فضلا عن أن لبنان انضم الى اتفاقية التبادل الضريبي لمنع التهرب الضريبي بين الدول في إطار المنتدى الاقتصادي الدولي”.
وبعيدا حتى من الاتفاقيات الدولية، “ثمة قانون صادر في العام 2015 ينص على مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ويحدّد الجرائم المالية وجرائم تجاوز السلطة بوضوح، ويمكن الاعتماد عليه لمحاسبة المتورطين، فضلا عن إتاحة هذا القانون لهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان مخاطبة وحدات الإخبار المالي في الخارج لطلب معلومات في ما خصّ أموال الفساد المحوّلة. فهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان يمكن أن تتحرّك إمّا بإشارة من النيابة العامة التمييزيّة، وإما إذا وصلتها مباشرة أيّ شبهات جديّة”.
ويختم مرقص بأنه “طالما لا توجد لدى المعنيين نية حقيقية بالتضحية بزبائنهم سواء في السلطة التنفيذية او الإدارة او القضاء او الامن، فلن تغير القوانين اي شيء ولن يسترد لبنان فلسا واحدا من الاموال المنهوبة حتى في حال اقرار القانون”.
وبالعودة الى القانون، فهو يسعى الى إضافة مكون رئيسي الى منظومة مكافحة الفساد في لبنان ومنع الفاسدين وشركائهم من التمتّع بالأموال المحصلة بسبب جرائمهم، وذلك من خلال:
– إزالة الإلتباس المفاهيمي السائد حول ما يُسمى شعبويا “إسترداد الاموال المنهوبة”، وإرساء مفاهيم وتعريفات واضحة في هذا الشأن تنسجم مع المعايير الدولية والقوانين اللبنانية.
– إنشاء آلية للتخطيط والتنسيق والمتابعة تجمع الجهات الرئيسية صاحبة الإختصاص والتي تترتب عليها مسؤولية العمل على استعادة الأموال المتأتية من جرائم الفساد وجرائم تبييض الاموال الناتجة منها وإعطائها أيضًا صلاحية اقتراح ما يلزم من مصالحات لتيسير الإستعادة.
– إنشاء صندوق وطني مستقل لإدارة الأموال قيد الاستعادة والمستعادة وجعله منسجما مع مبادئ سانتياغو لصناديق الثروة السيادية والتوصيات المتعلقة بتطبيق اتفاقية الأمم المتّحدة في شأن إدارة الموجودات ومتطلبات تفعيل التعاون الدولي في هذا الشأن.