أردوغان يلقي السلاح

ليس قرار أنقرة إلزام القنوات التلفزيونية التابعة لـ”الإخوان المسلمين” على أراضيها مواثيق الشرف الإعلامية وتوعدها بعقوبات ضد المخالفين، مجرد حلقة عادية في المسلسل التركي لخطب ود القاهرة، فلا التنظيم هو ضيف عابر لأنقرة، ولا هو عدو عادي للقاهرة.

للقرار التركي المعلن دلالات مهمة، وخصوصاً أن تنظيم “الإخوان المسلمين” الذي تصنفه القاهرة جماعة إرهابية، يعتبر محورياً للإيديولوجيا الإسلامية لأردوغان، كما لطموحاته التوسعية. وقد اضطلعت أذرعته الإعلامية بدور بارز في الحرب التي يشنها منذ سنوات على القاهرة ودول خليجية.

ومع ذلك، يضحي أردوغان بهذه الأداة الفاعلة في حربه الدعائية، مؤثراً اعتماد الطريق السريع إلى “قلب” القاهرة، رغم الملفات الأخرى الكثيرة العالقة بين الجانبين. وبذلك، يدق على وتر حساس للقاهرة، رغم ما قد يسبب له قرار كهذا من إحراج في أوساط بيئته الإسلامية.

قرر أردوغان التضييق على “الإخوان” بعدما حوّل تركيا ملاذاً آمناً لقيادات التنظيم ومؤسساته، يعكس حاجة ملحة للمصالحة، ويؤذن الصدى الإيجابي الذي لاقاه في مصر باختراق جدي في الأزمة، بعد الخطابات التركية المستمرة منذ شهر تقريباً والتي تجاهلها المسؤولون المصريون قبل أن يطالبوا أنقرة بمراعاة الأطر القانونية والديبلوماسية التي تحكم العلاقات بين الدول، شرطاً للارتقاء بالعلاقات.

رأت القاهرة في تقييد إعلام “الإخوان” في تركيا مبادرة ايجابية وأساساً للبناء عليه، وذهب وزير الإعلام المصري أسامة هيكل إلى اعتبار التعليمات المتعلقة بإعلام “الإخوان”، “مبادرة تخلق مناخاً ملائماً لبحث الملفات الخلافية بين الدولتين”.

ولتنظيم “الإخوان المسلمين” إمبراطورية إعلامية فضائية نافذة وتتحرك بحرية في ظل حكم حزب “العدالة والتنمية”. فمع أن تركيا، بمعايير منظمات حقوقية دولية، تعتبر سجناً كبيراً للصحافيين، صارت في السنوات الأخيرة ملاذاً لوسائل إعلام تبث بالعربية من إسطنبول. وتشير إحصاءات إلى أن البلاد تؤوي نحو ثلاثة آلاف صحافي عربي معارض يعملون في عشرات المؤسسات الفضائية أو تلك التي تبث عبر الإنترنت ومقرها تركيا. وإلى القنوات التي تركز على سوريا واليمن والعراق، هناك خصوصاً تلفزيونات تركز على مصر وليبيا.

وليست التلفزيونات الموجهة ضد مصر الا امتداداً لقنوات إسلامية كانت متمركزة في القاهرة قبل عزل مرسي عام 2013. ولعل أبرزها “مكملين” و”الوطن” و”الشرق” التي يرأسها المعارض نور، وشغلها الشاغل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وقد أُبلغ مديرو المؤسسات الثلاث وجوب التوقف عن انتقاد السيسي ووقف البرامج السياسية وعدم التدخل في الشأن الداخلي لمصر.

وعلم أن اجتماعاً حصل بين مسؤولين أتراك وممثلين للمعارضة المصرية في تركيا نوقشت فيه التطورات الأخيرة في العلاقات بين القاهرة وأنقرة. وبناء عليه فهم المصريون أن ثمة رغبة تركية في تعديل خطاب هذه القنوات بما يتسق مع مواثيق الشرف الإعلامية والصحافية، تحت طائلة الإغلاق في حال مخالفة التعليمات.

لا يرتقي القرار التركي الى مستوى إغلاق هذه القنوات، أو طرد القيادات “الإخوانية”. ومع ذلك، يعتبر تنازلاً كبيراً بعدما حمل الرئيس التركي لواء التنظيم الإسلامي طوال ثماني سنوات. وعلى رغم حجمه الظاهر، فإنه يعكس ضيق تركيا المعزولة في المنطقة وشرق المتوسط نتيجة طموحاتها التوسعية براً وبحراً، وحاجتها إلى مصر لترسيم حدودها البحرية والتحول شريكاً في غاز شرق المتوسط. كذلك، يدرك أردوغان أن تصحيح العلاقات مع القاهرة يمهد له الطريق لتحسين علاقات بلاده بدول الخليج.

وفي ظل التدهور الكبير للاقتصاد التركي وتزايد الأصوات المعارضة التي تحمله مسؤولية خسارة المليارات نتيجة سياسات شخصية حيال القاهرة، قد يشكل التطبيع فرصةً لاستعادة بعض الشعبية في الاستطلاعات، وتخفيف الضغوط الخارجية عليه.

قبل ثماني سنوات، أعلن أردوغان الحرب على مصر رافضاً الاعتراف بالسيسي ومشرعاً أبواب بلاده لمعارضيه، وها هو اليوم يحاول مد الجسور مجدداً مع حليف تقليدي، ملقياً السلاح الأقوى الذي استخدمه طوال ثماني سنوات.

تبدو الردود المصرية متأنية وحذرة في انتظار تبلور جدية القرار التركي. وتوحي أجواؤها بأن أي انفتاح على أنقرة لن يكون انتقالاً من جبهة إلى جبهة، ولا انتصاراً لأردوغان على حلفائها العرب وغير العرب، ولا قبولاً بزعامة تركيا الموهومة في المنطقة.

المصدر: annahar