كتب المخرج يوسف ي. الخوري
الحلُّ لا يكونُ في الذهاب إلى مؤتمرٍ دَولي من أجل لبنان، إنّما الحلّ يكمُنُ في نوعيّة النُخبِ اللبنانيّة التي ستُشارك في هذا المؤتمر. وإلّا فنحن ذاهبون إلى “دَوحَة” جديدة.
أبانا صاحب الغبطة،
أمران يُقلقاننا في دعوتكم إلى مؤتمر دَولي.
الأوّل هو أنّ دعوتكم الأمم المتحدة للتدخّل لإنقاذ لبنان، هي بغاية “حمايتنا وليس إدارتنا”.
والثاني هو أنّ بعض مَن يأزرون دعوتكم إلى المؤتمر الدولي، هم من المُصدّقين أنّ إتّفاق الطائف، إذا طُبّق، من شأنه أن يُقيم لبنان من تعثّره.
“حمايتنا وليس إدارتنا”؟!! وما العَيْب يا سيّدنا في اللجوء إلى الأمم المتحدة لإدارتنا؟ وهل نحن قادرون على إدارة شؤوننا الداخليّة في حال تأمّنت حمايتنا؟ وهل ستتحقّق حمايتنا بنشر قوات دولية على مساحة لبنان، أم بتلزيم لبنان لدولة جارة أو دولة صديقة، كي تضبط سلاح حزب الله، من دون نزعه، على غرار ما حصل في زمن الوصاية السوريّة؟
“حمايتنا وليس إدارتنا” هو مسعىً ضبابيّ، في الوقت الذي جميعُنا يعلم أنّه لا يسعُنا اللجوء إلى الأمم المتّحدة إلّا بمطالب واضحة.
نحن بحاجة إلى أكثر من حماية دَوليّة. نحن بحاجة إلى آليّة إجرائية، بذراعٍ أمميّة، تنفّذ القرارات الدوليّة، ولاسيّما تلك المُتعلقة بحصر كل السلاح بيد السلطة الشرعيّة.
ونحن أيضًا، نفتقر إلى القدرة على إدارة شؤوننا، خصوصًا إذا بقي البلد ممسوكًا من الفاسدين المحميين بقوّة السلاح الإلهي، والمتسلّحين بـِ “الشرعية” بحجّة أنّه مُعترف بها دوليًّا.
أمّا في حال نجح المؤتمر الدولي بكفّ يدِ الفاسدين عن التحكّم بالعباد والبلاد، ونقَلَ السلطة إلى طبقة جديدة ذات خبرة ونظافة كف، فهذه الطبقة ستحتاج بدورها إلى مواكبة دولية لأدائها، ضمانًا لعدم سقوطها أمام إغراءات السلطة، ولعدم تحوّلها إلى وجه متجدّد للفساد.
إذًا، لا يجب علينا حملُ المُعضلة اللبنانية إلى الأمم المتّحدة، إلّا في حال كنّا قادرين على انتزاع إجراءين نهائيّين:
– تحرير لبنان من كل سلاح غير شرعي، وأوّلًا بأوّلٍ، بِدءًا من سلاح حزب الله،
– وتحرير اللبنانيين من الطبقة الفاسِدة والمُفسِدة العاجزة حتّى عن التخاطب بعضُها مع بعض.
أمّا عن القول “إنّ إتّفاق الطائف إذا طُبّق، فهو الكفيل بأن يُقيم لبنان من تعثّره”، فهذا فخّ قد نقع فيه لثلاثين سنة جديدة في حال كان مشروعكم إلى الأمم المتّحدة، يا صاحب الغبطة، هو “إحياء إتّفاق الطائف”.
هذا الإتّفاق لم يوضَع ليطبّق يا سيّدنا، ولم يرقَ يوما إلى مستوى أن يكون دستورًا للبلاد، والبرهان، تضارب الصلاحيّات وتضارب عمل السلطات الناجمان عنه، والثغرات التي يحتويها من حيث يُمكن تفسير البند الواحد فيه بأكثر من تفسير، وانتفاء وجود سلطة واحدة لحسم السجالات حوله!… أوَلا يكفينا أنّ حسين الحسيني ما زال يُخفي عن اللبنانيين، ومن دون أيّ وجه حقّ، محاضر جلسات الطائف؟ وما الحاجة في الأصل لاحتفاظه بها؟! لو لم يكن مُدرِكًا أنّ إتّفاق الطائف غير مكتمل، لَكان أحرق محاضره وتخلّص منها فور إعلانه! ولو كان إتّفاق الطائف دستورًا ناجزًا بالفعل، لَمَا كنّا، في كلّ أزمة، نستذكر محاضره ونطالب بكشفها، ولَمَا كانت أضيفت على صلاحيّات رئيس المجلس النيابي صلاحيّة إضافيّة، عنَيْنا بها “تدوير الزوايا”.
وإتّفاق الطائف يا سيّدنا هو مصدر قوّة حزب الله ومصدر تحكّم سلاحه بمصيرنا، إذ بمجرّد أنّ معظم بنوده هي قابلة للتأويل، فهذا يعني أنّ الخلافات ستظلُّ قائمة بين اللبنانيين حوله، والحسم فيها سيبقى للأقوى على الساحة، والأقوى هو مَن بيده السلاح، أو مَن هو متحالف مع هذا السلاح ويُتقن لعبة “تدوير الزوايا” لصالحه!
قد يُغالي البعض بإيهام غبطتكم بأنّ إتّفاق الطائف يحافظ على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وبأنّه علينا التمسّك به كي لا يُطالب الشيعة بـ “المثالثة”! كيف يجنّبنا هذا الطائف مُطالبة الشيعة بـِ “المثالثة” وهو لو كان يُطبّق، أو يُعمل به، لكان حسم هذا الأمر منذ ثلاثين سنة، من خلال إلغاء الطائفيّة السياسيّة الواردة في سياقه، ومن خلال تطبيق اللامركزيّة الإدارية؟!
أمّا وإنّه غير قابل للتطبيق، فهو، بحدّ ذاته، مصدر الخطر الأساسي على مستقبل لبنان بصيغته التعدّدية، إذ من دون دستور واضح يحمينا، لن يقتصر الأمر على فرض “المثالثة”، بل سنواجه أزمة وجودية لا سبيل أبدًا إلى حلِّها: الزوال.
أمّا والحالة على ما هي عليه، فحذارِ يا صاحب الغبطة، الذهاب إلى المؤتمر الدولي وفي نيّتكم حماية اللبنانيين من السلاح غير الشرعي، بينما في يدكم مشروع إحياء إتّفاق الطائف الذي يُشرّع ويحمي هذا السلاح، وله الباع الطويل في ما يتعرّض له اللبنانيون اليوم من مآسٍ جِمام.
ويا سيّدنا، بدأ قلقنا يزيد في الأيّام الأخيرة، حين صرنا نشاهد في بكركي رموزًا من الطبقة الفاسَدة وقد حضروا لتأييد دعوتكم إلى مؤتمر دولي من أجل لبنان. وأخشى ما نخشاه هو أن يتسلق هؤلاء على طرحكم ” المؤتمر الدولي” بغاية تعويم أنفسهم في ظلّ عباءتكم، فيلطّخون مجد لبنان بسوئهم، ويفوّتون على اللبنانيين فرصة الخلاص. فحذارِ من هؤلاء “الطرواديين”، كي لا تُصبح بكركي حصان طروادة.
سيّدنا صاحب الغبطة،
فلنذهب إلى الأمم المتّحدة ونصب أعيننا تحرير دولتنا وتعزيزها، ولا تتعزّز دولة إلا بإستقلال شعبها عن الخارج، وهذا بالتحديد ما فهمناه من دعوة غبطتكم إلى “الحياد”. كما ولا تتعزّز دولة إلا بتحقيق سيادتها في الداخل، وهذا يتطلب أولويّة في تحرير لبنان من السلاح غير الشرعي، والإيديولوجيّات الغريبة عن ثقافته وحضارته.
فلنذهب إلى الأمم المتّحدة من دون مراعاة خواطر، ومن دون خجل. ولنعُد بالتغيير الجذري، النهائي، وليس بالترقيع. لنعُد بالخلاص. لنعُد بلبنان.
مقالة مستوحاة من نقاش حصل في الندوة اللبنانيّة الجديدة حول دعوة البطريرك الماروني إلى مؤتمر دولي من أجل لبنان.
راجعتها ونقّحتها: الصحافيّة والأستاذة الجامعيّة نضال أيّوب
موقع الكلمة اونلاين