عودة: من يعبّر عن رفضه أو غضبِه يُقمع أو يسجن!

أكّد متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة انّ “العدالة والإنصاف أساس فعاليةِ القوانين وصوابيةِ الأحكام، وعيونُنا جميعاً على الجسم القضائي الذي بات الحصنَ الأخير قبل الإضمحلال. فالمطلوبُ منكم يا قضاةَ لبنان حملَ سيفِ الحق، وتطبيقَ العدالةِ، واعتمادَ المساواةِ بين الجميع، وإصدارَ الأحكامِ بلا تردّدٍ وبغضِ النظرِ عن مرتبةِ المذنبِ أو جنسِه أو دينِه أو إنتمائِه. التمييزُ بينَ المواطنين بغيضٌ وقد يحرمُ صاحبَ الحقِّ حقَّه أو قد يغضُّ الطرفَ عن ذوي المراتبِ المذنبين، ما يؤدي إلى خلقِ الفوضى وتـفـشِي الفساد ويأسِ المواطن. لذا نرجو منكم الإبتعادَ عن الإنحيازِ والظلمِ والعنصريةِ والمحسوبيةِ وخصوصاً عن السياسة، وعدمَ الخوفِ إلاَّ من الله خالقِكم، وعدمَ الإصغاءِ إلاَّ إلى ضمائرِكم”.

وقال في عظة الأحد: “أَحِبَّائي، تَقرَأُ كَنيسَتُنا المُـقَـدَّسَةُ اليَومَ على مَسامِعِنا النَّصَّ الإِنجيلِيَّ المُتَحَدِّثَ عَن لِقاءِ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ بالمَرأَةِ الكَـنعانـِيَّـة. لَقَدْ خَـرَجَ الـرَّبُّ مِنَ البِلادِ اليَهـودِيَّــة، وتَــوَجَّهَ إلى نَواحي صورَ وصَيدا، أَي إلى الأُمَــمِ، إلى الوَثَــنِـيِّـين. هُناكَ، خَرَجَـتِ امرَأَةٌ تَصرُخُ نَحوَ الرَّبِّ يَسوعَ قائِلَةً: «إِرحَمني، يا رَبُّ، يا ابنَ داود». نادَتْهُ كما كانَ يَنبَغي على اليَهودِ مُناداتُه، لَكِنَّ شَعـبَهُ أَنــكَــرَ أَنَّهُ الرَّبُّ، فيما المرأةُ الوَثَــنِـيَّـةُ عَرَفَــتْـهُ إِلَهًا ومُخَلِّصًا. مُجاوَرَةُ صورَ وصَيدا لِليَهودِيَّةِ جَعَلَتِ المَرأَةَ تَسمَعُ عَنِ المَسيحِ مِنَ الشَّريعَةِ، فَعَـرَفَـتْهُ حالَما رَأَتْهُ، على عَكسِ شَعبِهِ. هَذِهِ المَرأَةُ، الَّتي اعـتَـرَفَـتْ بِالمَسيحِ كَــرَبٍّ وابنٍ لِداود، لَمْ تَحتَجْ إلى الشِّفاء، ولَمْ تَــتَــوَسَّلْه مِن أَجلِ نَــفسِها، لَكِنَّها التَـمَـسَـتِ الشِّفاءَ لِابـنَـتِها الَّتي كانَتْ نَموذَجًا لِكُلِّ الأُمَم الَّتي مَسَّتْها الأَرواحُ النَّجِسَة.

لَمْ يُجِبِ الرَّبُّ يَسوعُ المَرأَةَ بِكَلِمَةٍ، تَجاهَلَها، لَيسَ لأَنَّهُ عَديمُ الرَّحمَة، بَلْ لإِضرامِ الرَّغـبَةِ فيها إلى الخَلاص، ولإِبرازِ فَضيلَةِ التَّواضُعِ الَّتي تَـتَـمَـتَّعُ بِها، وللإِضاءَةِ على عِظَمِ إيمانِها.

دَنا الرُّسُلُ إلى مُعَـلِّمِهِم قائِلين: «إِصرِفْها فَإِنَّها تَصيحُ في إِثـرِنا». لَقَدْ تَحَرَّكَ الرُّسُلُ شَـفَــقَـةً وتَــوَسَّلوا مِنْ أَجلِها مُستَـعـطِـفـينَ السَّيِّدَ حَتَّى يَرحَمَها ويَمنَحَها مُرادَها ويَصرِفَها بِسَلام. إِلَّا أَنَّ الرَّبَّ أَجابَ تَلاميذَهُ قائِلًا: «لَمْ أُرسَلْ إِلَّا إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيتِ إِسرائيل». قالَ الرَّبُّ هَذا الأَمرَ حَتَّى يُسكِـتَ اليَهودَ فلا يَتَّهِمونَهُ فيما بَعدُ بِأَنَّهُ رَغبَ في الذَّهابِ إلى الأُمَمِ الوَثَـنِـيَّةِ بَدَلًا مِنهُم. يَـقـولُ الإِنجيلِيُّ يوحَنَّا: «إلى خاصَّتِهِ جاءَ وخاصَّتُهُ لَمْ تَقبَلْهُ» (1: 11)، لَقَدْ جاءَ المَسيحُ إلى اليَهودِ، وانتَظَرَ مِنهُمْ ثِمارَ الإِيمان، لَكِنَّهُم رَفَضوهُ. أمّــا الأُمَمُ، المُـتَـمَـثِّــلَةُ بِالمَرأَةِ الكَنعانِيَّةِ وَابنَتِها، فقد قَبِلَتْهُ وَاعتَرَفَتْ بِهِ إِلَهًا ومُخَلِّصًا. سَرَّعَتِ المَرأَةُ فِي مَجيءِ خَلاصِ الأُمَم، إِذْ أَلَحَّتْ على الرَّبِّ ساجِدَةً وقائِلَةً: «أَغِــثْــني يا رَبّ». أَجابَها الرَّبُّ: «لَيسَ حَسَنًا أَنْ يُـؤخَذَ خُبزُ البَنين ويُلقى لِلكِلاب». كانَ اليَهودُ يَعتَبِرونَ أَنفُسَهُم أَبناءَ الله، ويَدعونَ الأُمَمَ كِلابًا، والأَبناءُ اليَهودُ كانوا يَعيشونَ داخِلَ أَرضِهِم وبِالقُربِ مِنْ هَيكَلِهِم، بَينَما الأُمَمُ كانوا في الشَّتاتِ، خارِجَ البَيتِ، أَيِ خارجَ الأَرضِ الَّتي اعـتَـبَـرَها اليَهودُ مُـقَـدَّسَةً، فَاعـتُـبِروا كِالكِلابِ الَّتي تَبيتُ خارِجَ البَيت. الكِلابُ يَأكُلونَ بَعدَ البَنين، وهَكذا كانَ الوَثَـنِيُّونَ يَنتَظِرونَ دَورَهُم في الخَلاص. لذلك أَجابَتِ المَرأَةُ الرَّبَّ: «نَعَم، يا رَبُّ، فَإِنَّ الكِلابَ أَيضًا تَأكُلُ مِنَ الفُـتاتِ الَّذي يَسقُـطُ مِنْ مَـوائِـدِ أَربابِها». إِعـتَــرَفَـتِ المَرأَةُ بِأَوليَّةِ البَنينَ في الخَلاصِ، لَكِن يُمكِنُنا القَول إِنَّها عَجَّلَتْ بِفَتحِ بابِ الخَلاصِ لِلوَثَـنِيِّين، طالِبَةً بِعضَ الفُتاتِ، أَيْ بَعضًا مِنَ الخَلاص، مُعَبِّرَةً عَن ذَلِكَ بِإيمانٍ عَظيم وتواضعٍ عميقٍ وصادق. حاوَلَ المَسيحُ إِدانَةَ قَساوَةِ اليَهودِ تُجاهَ الأُمَمِيِّين، فَاستَعمَلَ عِباراتِهِم في حَديثِهِ لِيُريهِم أَنَّ مَن أَرادَ أَنْ يَخلُصَ لا يَيأَسَ مِنَ القَسوَةِ بِحَقِّهِ، بَل يَــتَــشَــبَّــثُ بِالخَلاصِ أَكثَرَ فَأَكثَر. شاءَ الرَّبُّ أَنْ يُعَلِّمَ اليَهودَ التَّواضُعَ عَن طَريقِ هَذِهِ المَرأة. فَاليَهودُ مُـتَـكَـبِّـرون، يَقولونَ: «نَحنُ نَسلُ إِبراهيم، لَم نَكُنْ يَومًا عَبيدًا لأَحَد» (يو 8: 33)، كما يَقولون: «نَحنُ وُلِدْنا لله» (يو 8: 41)، فيما لَم تَغضَبْ المَرأَةُ مِن تَشبيهِها بالكِلابِ، ومِنِ اعتِرافِها بِسِيادَةِ اليَهودِ، إِذا كانَ هَذا سَيَأتيها بِالخَلاص. إِلحاحُ المَرأَةِ يُذَكِّرُنا بِما عَلَّمَنا إِيَّاهُ بولُسُ الرَّسولُ قائِلًا: «صَلُّوا بِلا انقِطاع» (1تس 5: 17)، كَما يُذَكِّرُنا بِمَثَلِ الأَرمَلَةِ اللَّجوج. البَشَرُ، مَتى أَرادوا أَمرًا ثابَروا مِن أَجلِ الحُصولِ عَلَيهِ والوُصولِ إِلَيه، فَكَيفَ إِذا كانَ اللهُ هُوَ الهَدَفُ المَنشود؟ أَلا يَستَحِقُّ الرَّبُّ مِنَّا المُـثـابَــرَةَ لِلحُصولِ على خَلاصِهِ رَغمَ كُلِّ الصُّعوباتِ الَّتي قَدْ نَـمُــرُّ بِها؟

عِندَما عايَنَ الرَّبُّ تَواضُعَ المَرأَةِ الوَثَــنِـيَّة وإِلحاحَها، قالَ لَها: «يا امرَأَةُ، عَظيمٌ إِيمانُـكِ، فَليَكُنْ لَكِ كَما أَرَدْتِ»، فــشُــفِــيَــتِ ابنَتُها مِن تِلكَ السَّاعَة. الإِيمانُ الحَقيقيّ هوَ الثقة بِاللهِ في كُلِّ الظُّروف، والأمانةُ لَهُ، حَتَّى عِندَما تَكونُ في اضطِرابٍ عَظيم، أو حَتَّى عِندَما يَبدو لَكَ أَنَّهُ لا يَستَجيبُ طَلَبَكَ أَو يَهتَمُّ لَهُ. هَذا هُوَ امتِحانُ إِيمانِ كُلٍّ مِنَّا. ما تَفَوَّهَ بِهِ الرَّبُّ تُجاهَ المَرأَةِ أَظهرَ إيمانَها العَظيم الذي حَصَلَتْ بِموجَبِهِ على شِفاءِ ابنَتِها، أَي على خَلاصِ كُلِّ الأُمَمِ الوَثَـنِيَّة. تُظهِرُ لَنا هَذِهِ المُعجِزَةُ أَنَّ قُدرَةَ الرَّبِّ يَسوعَ على سَحقِ الشَّياطين عَظيمَةٌ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُضطَرًّا أَنْ يَكونَ مَوجودًا شَخصِيًّا لِكَي يُحَرِّرَ مِنها الإِنسانَ، مِثلَما حَدَثَ مَعَ غُلامِ قائِدِ المِئَةِ الَّذي كانَ أَيضًا وَثَنِيًّا. أَظْهَرَ المَسيحُ بِدايَةً أَنَّهُ لا يُريدُ مَنحَ المَرأَةِ أَيَّ شَيء، لَكِنه بَعدَ امتِحانِ إِيمانِها أَغدَقَ عَلَيها بِسُيولِ نِعمَتِه.

يا أَحِبَّة، لَقَدْ وَضَعَتْ كَنيسَتُنا المُقَدَّسَةُ هَذِهِ الحادِثَةَ تَمهيدًا لِلأُسبوعِ المُقبِلِ الَّذي سَنَسمَعُ فيهِ عَنِ الفَرِّيسِيِّ والعَشَّار، عَنِ الكِبرِياءِ القاتِلَةِ والتَّواضُعِ المُنقِذ. وبِالحَديثِ عَنِ التَّواضُع والكِبرِياء، نَأسَفُ لِوَضعِنا في هَذا البَلَدِ الحَبيب. هُنا، نَصَّبَ مَسؤولونا أَنفُسَهُم أَفهَمَ مِنْ جَميعِ مَسؤولي العالَم، فَهَلَكَ البَلَدُ بِسَبَبِ كِبرِيائِهِم، بَينَما نُعايِنُ أَشِقَّاءَنا قَدْ وَصَلوا إلى المَرِّيخِ بِخَفَرٍ وعَمَلٍ صامِتٍ ودَؤوب، ونَحنُ نُهَنِّئُهُم على إِنجازِهِم المُضافِ إلى إِنجازاتٍ أُخرى أَهَمُّها تحويلُ صحرائِهم إلى واحةِ لقاءٍ وتسامُحٍ وأخوَّة. لبنانُنا كان فيما مضى واحةَ التلاقي والحوار، أرضَ الحريةِ والديمقراطيّةِ والإبداع. لقد فـقـدَ لبنانُ دورَه الرائدَ في التعليمِ والإستـشـفـاءِ والسياحةِ والخدماتِ المصرفيةِ وغيرِها من الخدمات. كان مقصَدَ طالبي العلمِ والمعرفةِ والحرية. كان ملجأَ الـمستــنـيـرين والرؤيويين والأحرارِ المـقـمـوعـين في بلادِهم، فإذا به يصبحُ قاهرَ الأحرارِ والمبدعـين، يهجرُه أبناؤه يومياً، الكبارُ منهم قبل الشباب، طلباً للعيشِ الهانئِ الكريم، حيث الأمانُ والإستـقرارُ والمساواةُ والعدالةُ وراحةُ النفسِ والإطمئنانُ إلى الغدِ والأبناء.

لبنانُ الريادةُ والتميُّزُ والإبداعُ وأرضُ التلاقي والحوار أصبح من الماضي. التنافسُ البنّاءُ الذي عَــرَفَــه لبنانُ في كلِّ المجالات أصبحَ تنافساً في المطالبِ والمكاسبِ والصراعاتِ وتصفيةِ الحسابات، والشعبُ مغلوبٌ على أمرِه يناضلُ من أجل الإستمرار في العيش، وإذا سوّلتْ لأحدِهم نفسُه أن يتمرَّدَ أو يعبّرَ عن رفضِه أو غضبِه يُــقــمَعُ أو يُسجَنُ أو يُكتَمُ صوتُه.

أين لبنانُ المـفـكرين والرياديين والمبدعين والأدباءِ والشعراءِ والفلاسفةِ والعلماءِ ورجالِ الفكرِ والقانونِ والاقتصادِ وعـمالـقـةِ السياسة؟ في الستينات كنّا سبّـاقـين في مجالِ الفضاءِ والإقتصادِ والعلمِ والفكرِ والتعليمِ والصحةِ والفنِ وغيرِها من المجالات. كنّا في طليعةِ الدولِ العربيةِ ومثالاً يُحتذى. أين أصبحنا؟ رَحِمَ الله أولئك الكبار الذين حكموا لبنان، وبئسَ ما وصلنا إليه.

حكامُنا اليوم نَصَّبوا أَنفُسَهُم حُكَماءَ الشَّعب، لَكِنَّهُم جَهِلوا مَنْ فَجَّرَ الوَطَنَ وقَــتَــلَ المُواطِنين. مَسؤولونا يُنادونَ بِالحُرِّيَّةِ والسِّيادَةِ، وهُم لا يَعرِفونَ سِوَى كَمِّ الأَفواهِ الحُرَّةِ المُـنـادِيَـةِ بِالسِّيادَة والحرية والعدالة.

إنَّ الحياةَ الحقَّةَ لا تأخذُ معناها الحـقـيقي إلا عندما تتخطى الأنانيةَ والمصلحةَ في سعيها إلى خدمةِ القضايا العظمى، والعدالةُ إحداها. فإن سئمَ اللبنانيون من السياسيين وعدمِ نُضجِهم وإهمالِهم وأنانيَّتِهم وتمسُّكِهم بمصالحِهم فالتعويلُ على عدلِ القضاءِ ونزاهةِ القضاة وشجاعتِهم واستعدادِهم للتضحيةِ من أجلِ الحقِّ، لكي نصلَ إلى الدولةِ العادلةِ حيثُ المساواةُ واحترامُ الحقوقِ والحرياتِ ومحاسبةُ كلِّ مذنبٍ ومعاقبتُه، فتتوقَّفُ سلسلةُ التعدّياتِ والإغتيالاتِ وأعمالِ الظلمِ والحقدِ والتحقير.

إنَّ العدالةَ فضيلةٌ أخلاقيةٌ وواجب. إنها إحدى القيم الإنسانيَّة وهي ضروريةٌ للدولةِ وأساسُ الحكم. بالعدلِ تُحمى حقوقُ المواطن، وتُسنُّ الأحكامُ ويُعاقَـبُ المذنب والمجرم. فإذا كان السياسيون لا يعون المخاطرَ المحدقةَ بلبنان أو يتجاهلون الوضعَ المزري هرباً من المسؤولية أو عجزاً أو جبناً أو خوفاً، فالمطلوبُ انـتـفاضةُ القضاءِ على السياسة وإبعادُها عن التدخلِ في الأحكام، والإنصرافُ إلى دراسةِ الملفاتِ بحياديةٍ وموضوعيةٍ واستقامة، ومعاقبةُ كلِّ من أساء إلى لبنان وأبنائه وكلِّ من خالفَ القوانين ولم يطبقْ الدستور وكان سبباً في شلِّ المؤسسات وتعطيلِها وتراجعِ الإدارة وتـفـشي الفساد، وكلِّ من ساهم عن قصدٍ أو عن علمٍ أو عن إهمالٍ في تـفـجـيـرِ العاصمة وقتلِ أبنائها وتهجـيرِهم وإفــقـارِ اللبنانيين وتجويعِهم وكمِّ أفــواهِهم واغتيالِ مـفـكريهم وسجنِ كلِّ من تجرأ على الإعتراض.

إنَّ العدالةَ والإنصافَ أساسُ فعاليةِ القوانين وصوابيةِ الأحكام، وعيونُنا جميعاً على الجسم القضائي الذي بات الحصنَ الأخير قبل الإضمحلال. فالمطلوبُ منكم يا قضاةَ لبنان حملَ سيفِ الحق، وتطبيقَ العدالةِ، واعتمادَ المساواةِ بين الجميع، وإصدارَ الأحكامِ بلا تردّدٍ وبغضِ النظرِ عن مرتبةِ المذنبِ أو جنسِه أو دينِه أو إنتمائِه. التمييزُ بينَ المواطنين بغيضٌ وقد يحرمُ صاحبَ الحقِّ حقَّه أو قد يغضُّ الطرفَ عن ذوي المراتبِ المذنبين، ما يؤدي إلى خلقِ الفوضى وتـفـشِي الفساد ويأسِ المواطن. لذا نرجو منكم الإبتعادَ عن الإنحيازِ والظلمِ والعنصريةِ والمحسوبيةِ وخصوصاً عن السياسة، وعدمَ الخوفِ إلاَّ من الله خالقِكم، وعدمَ الإصغاءِ إلاَّ إلى ضمائرِكم. أَرسوا النِّظامَ والعدلَ والحَقَّ، أنصفوا البريءَ والمظلومَ، أحموا حريةَ الرأي والفِكرِ والتعبيرِ والمُعْـتَــقَــد، ودافعوا عن الشعبِ المقهور، وعن الأحرارِ والمثـقــفين والمُـفَــكِّرين. يقولُ ميخا النبي: «قد أخبَرَكَ أيها الإنسانُ ما هو صالحٌ وماذا يطلُبُه منكَ الربُ إلاَّ أنْ تصنعَ الحقَّ وتحبَّ الرحمةَ وتسلُــكَ متواضعاً مع إلهِك» (6: 8). إِستَخدِموا سُلطَتَكُم مِن أَجلِ خَلاصِ النَّاسِ، لا مِن أَجلِ التَّخَلُّصِ مِنهُم كما يفعلُ مُحتَرِفو السياسة. لقد نصحناهُم مراراً وتـكـراراً قائلين لهم: لا تـَدَعوا اللبنانيين يَــنشُدونَ الخَلاصَ مِنَ الخارِج، كونوا أَنتُم صُنَّاعَهُ، أَنقِذوا البَلَدَ بالحكمةِ والتعقُّلِ والتعاون، شكِّلوا حكومَةً مُــتَعــالِيَةً عَنِ الإِختِلافاتِ الطَّائِـفِــيَّةِ والقَـبَـلِـيَّـةِ وعن المَصالِح والمكاسِب، ولتَكُنْ طائِــفَــتُــكُم واحِدَة، طائفةُ مُحِبِّي الوَطَنِ الواحِدِ المخلصينَ له وحده، ولْتَكُنْ مَصلَحَتُكُم الوَحيدَة مَصلَحَةَ شَعبِكُم الَّذي سَلَّمَكُم عُنُقَهُ ثِقَةً بِكُم، فلا تَنحَروهُ.

في النِّهايَة، يَدعونا الرَّبُّ إلى التَّواضُعِ والمَحَبَّةِ والإِصرارِ في الإِيمان. نحنُ سَنَبقى مُصِرِّينَ في صَلَواتِنا إِلى الرَّبِّ كي يُنيرَ عُقولَ مَسؤولينا، ويُــلَــيِّــنَ قُلوبَهُم، عَــلَّهُم يَرأَفونَ بِالبَــقِــيَّـةِ الباقِيَة في هَذا البَلَد، ويبعدَ عنهم الكبرياءَ والجشعَ والحـقـدَ والظلمَ وإدانةَ الآخرين، بِشَفاعاتِ القِدِّيسِ البارِّ مارونَ النَّاسِكِ الَّذي تُعَيِّدُ لَهُ كَنيسَتُنا المُقَدَّسَةُ اليَوم، في الرابع عشر من شهر شباط، آمين”.