بعد 16 عام على اغتيال رفيق الحريري …

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:

16 عاماً على اغتيال الرئيس رفيق الحريري. 16 عاماً على غيابه مقابل 16 عاماً على حضوره في اللعبة السياسية المباشرة، صعد خلالها إلى أعلى القمّة وبنى مساحة حركته على مستوى العالم. كان صعوده صعباً ولكنّه كان مبنياً على قواعد ثابتة وكان واثقاً من نفسه وقادراً على خوض المواجهات الصعبة. وكما كان صعوده صعباً كان اغتياله قاسياً.

دخل رفيق الحريري إلى الحلبة السياسية بقوّة مع التحضير لاتفاق الطائف في العام 1989. قبل ذلك كان تحركه ظرفياً وفي المناسبات وخلال الأزمات موفداً للملك السعودي فهد بن عبد العزيز. مع الطائف كان قد بدأ يفتح الطريق نحو حجز موقع له في حلبة الصراع السياسي في لبنان. كان بدأ يبني مشروع رفيق الحريري ويعدّ له عدة العمل وأدواته اللازمة بالأشخاص والمعاونين وبالأدوار. وكان ينتظر موسم الحصاد.

مع التحضير للطائف عمل كأنّ هذا الإتفاق الذي سيُخرج لبنان من الحرب إلى السلم سيكون طريق تسلّقه جبل المصاعب اللبنانية. لذلك لم يتوانَ عن اللحاق بالبطريرك مار نصرالله بطرس صفير إلى روما. كان البطريرك انتقل إلى هناك في أواخر أيلول 1989 مع انتقال النواب اللبنانيين إلى الطائف. وكان الرئيس الحريري على تواصل معه عن طريق سمير فرنجية الذي كان يزوره في بكركي ويضعه في أجواء التحضيرات لانتقال النواب والصيغ المعدة للإتفاق، التي كان يعمل على مسوداتها أيضاً وعلى خط آخر الرئيس حسين الحسيني. من البداية كان هناك شبه تسليم بأن يكون الرئيس المقبل للجمهورية النائب رينيه معوض الذي كان اصطحب معه إلى الطائف حلاقه شكري حمصي، وكان كلما قصّ شعر نائب يمازحه بأن يضع عليه شرطاً بأن ينتخب معوض، وكان يتصرف كأنه عالم بكلمة السرّ.

اغتيال معوض قلب المعادلات. لم يكن الياس الهراوي خيار رفيق الحريري. كان يفضّل جان عبيد ولكنّ القرار كان قد أصبح بيد النظام السوري. اذهبوا وانتخبوا الياس الهراوي قال حافظ الأسد للرئيس حسين الحسيني، الذي كان يريد أن ينتخب بيار حلو ولكن لا حلو ولا عبيد كانت ساعتهما.

انتظر الرئيس الحريري حتى ما بعد انتخابات العام 1992 لكي يصبح رئيساً للوزراء. إتُّهِم بأنه كان مع “القوات اللبنانية” وراء ثورة الدواليب في 6 ايار 1992 التي أسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي. لم يكن النظام السوري ليقبل بأن يأتي الحريري رئيساً للحكومة مع مجلس نواب 1972 ولو كان مطعماً بالنواب الذين تم تعيينهم. كانوا يخافون من قدرته على استيعاب الرئيس الهراوي والتعاون مع “القوات اللبنانية” ورئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط. لذلك لم يقبلوا باقتراح الهراوي لشكّهم بأنّه غير بريء ومنسّق مع السفير جوني عبدو مدير المخابرات الأسبق على عهد الرئيس الياس سركيس. لم يشارك الحريري في انتخابات 1992 ودخل إلى رئاسة الحكومة من دون أن يكون معه نائب واحد ومن دون أن يظهر أي ميل للعمل السياسي المباشر.

في العام 1996 تبدّلت اللعبة. خاض الرئيس رفيق الحريري الإنتخابات النيابية من دون أن يتوسّع خارج حدود بيروت. كان يدرك أنهم في دمشق يراقبون حجمه وكان يعرف أنّ هذا الحجم ليس وقت ترجمته في مجلس النواب، وكانت تجربته الإنتخابية لا تزال تحتاج إلى تحضيرات أكبر، وكان يعرف أنّ الحجم له علاقة بالدور وأن القرار السياسي لا يخرج عن إرادة النظام السوري، وأنّ عليه من أجل ذلك أن يحمل على كتفيه بعض الودائع السورية في الحكومة وفي مجلس النواب وأنّ صعود السلم يكون درجة درجة.

كان الرئيس رفيق الحريري قادراً على فتح أبواب كثيرة وعلى بناء علاقات على مستوى رؤساء الدول وخصوصاً دول القرار. ولكنّه في هذا المدى الذي كان يستطيع أن يحلّق فيه بطائرته الخاصة كان يعرف أنّه لا يمكنه أن يستمرّ في التحليق من أجل نفسه، ولذلك كان يظهر أحياناً كثيرة وكأنّه يعمل من أجل مصلحة النظام السوري الذي كان دائماً تحت المراقبة الدولية.

حتى بعد وفاة رئيس النظام السوري حافظ الأسد في حزيران 2000 وبعد تولّي ابنه بشّار خلافته بقي الحريري حذراً في التعامل معه. كان يعلن أنّه يجب أن يعطى فرصة لكي يثبت أنه قادر على تغيير الوضع السوري، ولكنّه مع ذلك كان دائماً تحت المراقبة اللصيقة من المجموعة التي تكوّنت حول بشّار الأسد ابتداءً من العام 1998، وأفتت بانتخاب قائد الجيش إميل لحود رئيساً للجمهورية. مع مجموعة الإبن وتوابعها في لبنان كانت المواجهة أصعب وكان يجب أن يتعاطى الحريري معهم بكثير من الذكاء والريبة والباطنية. لم يخف منهم. لم يتنازل. لم يساوم ولم يعقد صفقات. لم يتردّد في الإعتذار عن عدم تأليف الحكومة من موقع القوّة ولم يستجدِ في أيّ مرّة تسميته. كان لا يقبل إلّا أن يكون رئيساً قوياً للحكومة. ولأنّه كذلك كان أيّ رئيس غيره للحكومة يبقى ضعيفاً.

من خارج السراي خاض انتخابات العام 2000 ولم يتردّد في إسقاط معظم الذين كان يراهن عليهم النظام السوري وأتباعه في لبنان. وفي كل هذه التجربة كان يبني جسور التواصل مع البطريرك صفير ولقاء قرنة شهوان ومع رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط، محافظاً دائماً على علاقة متوازنة مع “حزب الله” لا تُطَمئِن “الحزب” ولا تخيفه، ولكن من دون أن يتحدثا علناً حول هذه العلاقة كان كلاهما يتصرّف على أساس أن الآخر لا يريده ولا يحبّه وربّما يتآمر عليه.

الشك المتبادل بين الرئيس الحريري وبين بشّار الأسد و”حزب الله” بلغ ذروته مطلع العام 2004. كان هناك مفترق طرق يجب اختيار الطريق الصحّ فيه. لم يكن طريق رفيق الحريري نفس طريق الأسد و”الحزب”. اتهماه بأنّه يتآمر عليهما. قرّر الأسد التمديد للحّود وطلب مثول الحريري أمامه. في ذلك اللقاء في آب 2004 هدّده الأسد. سأدمّر لبنان على رأسك وأحرقه إذا لم تمدّد للحّود. تنازل الحريري وماشى التمديد ولكنّه كان مدركاً في المقابل أنّ أيّام النظام السوري في لبنان ستكون معدودة. إتُّهِم بأنّه كان وراء القرار 1559 الذي صدر عن مجلس الأمن وطلب سحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح “حزب الله”. وكان عليه أن ينتظر لدفع الثمن. كأنّها كانت حرب إلغاء بين الطرفين. كان الحريري ينتظر نتائج انتخابات 2005 والحصول على الأكثرية النيابية بالتحالف مع وليد جنبلاط ولقاء قرنة شهوان، ولكنّ الشاحنة المفخخة كانت تنتظره ظهر 14 شباط 2005 على طريق السان جورج وسط بيروت.

بعد 15 عاماً أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحكمت على سليم عيّاش القيادي في “حزب الله” بالسجن المؤبّد. بعد عشرين يوماً على اغتياله أعلن بشار الأسد انصياعه للقرار 1559 وسحب جيشه ومراكز مخابراته من لبنان، ولكن في المقابل لم يكن “حزب الله” ليقبل بأن يتمّ نزع سلاحه. بعد 15 عاماً لا تزال هذه القضية عالقة ولا يزال دم رفيق الحريري على الطريق. دم يرفض التنازل عن الحقيقة والتضحية بالعدالة.