كتب ميشال الشماعي في “نداء الوطن”:
لا شكّ أنّ هذا الأسبوع عرف بأسبوع تدويل الأزمة اللبنانيّة بامتياز على أثر دعوة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. مع العلم أنّ الفاتيكان قد شدّد على ضرورة أن “يشهد لبنان التزاماً سياسياً، وطنياً ودولياً، يسهم في تعزيز الاستقرار، في بلد يواجه خطر فقدان هويّته الوطنيّة، والانغماس داخل التجاذبات والتوتّرات الإقليميّة”، محذّراً من “إضعاف المكوّن المسيحي ممّا يهدّد بالقضاء على التوازن الداخلي”. فهل سيدخل ملفّ الأزمة اللبنانيّة فعلاً في نفق الحلول الدوليّة؟ وماذا يعني عمليّاً تدويل الأزمة؟ وكيف يُصرَف في السياسة الداخليّة اللبنانيّة؟
عمليّاً لقد سلّم البطريرك بأنّ المشكلة ليست في الحكم بذاته، بل في كيفيّة إدارته من قبل هذه الأكثريّة الغاشمة. ولقد استنفد المحاولات كلّها، وليس آخرها تلك التي تمّ صدّها من قبل فريق العهد المفترض أن يكون حصناً حصيناً من حصون بكركي، لا أن يكون حصان طروادة للقضاء على الكيانيّة اللبنانيّة التي يمثّلها هذا الصرح ببُعدَيْه: التاريخي والوطني. وسرعان ما لاقاه في موقفه هذا حلفاؤه الذين يعتبرون مجرّد التقاطع الدّولي على أولويّة المصالح الدّوليّة في المنطقة هو رادع مشروع لعدم اللجوء إلى المجتمع الدّولي. فاستمرّوا بتقزيم الأزمة على أنّها اختلاف بسيط في كيفيّة توزيع الأدوار سياسيّاً. فيما الحقيقة تبدو في غير مكان إطلاقاً. ما يخاف منه فريق الأكثريّة هو نجاح بكركي في أن تجعل الأزمة اللبنانيّة في سلّم أولويّات دول القرار، لا سيّما أميركا وفرنسا، بعدما نجحت هذه السلطة في سحب الملفّ اللبناني من أيدي المجتمع الدولي بإفشالها المبادرات الدوليّة والمحليّة للحلّ. ويناسبها أكثر بقاء الوضع على حاله التعطيليّة لأنّه يسمح باستمراريّة حكمها في هذه المرحلة الحرجة إقليميّاً ودوليّاً. ولكن على ما يبدو أنّ بكركي قد نجحت بإعادة ملفّ الأزمة اللبنانيّة إلى سلّم أولويّات دول القرار، مدعومة بغطاء فاتيكانيّ ليس بعيداً من تاريخ تعاطي دوائر الفاتيكان مع الأزمات التي طالت الوجود المسيحي الحرّ في الشرق، بدءاً من البوابة اللبنانيّة. من هذا المنطلق، ستشهد الأيّام القادمة محاولات حثيثة لضرب المبادرة البطريركيّة – الفاتيكانيّة حتّى لو اضطرّ ذلك أسياد أهل الحكم في لبنان لتقديم تنازلات دوليّة في ساحات المفاوضات الدّائرة، علناً أو جهراً. وذلك لما يملك لبنان من أهميّة استراتيجيّة لمشروع المحور الايراني كونه الساحة المنيعة الوحيدة المحصّنة عسكريّاً وسياسيّاً.
مقابل ذلك كلّه، تستمرّ المساعي الحثيثة بين الأطراف الكيانيّة لتقريب وجهات النّظر بغية التوصّل إلى ضربة دستوريّة قاضية أقلّ تجلّياتها تكون بإسقاط هذه الأكثريّة برلمانيّاً. لكنّ الكلّ ما زال يتحيّن اللحظة الاقليميّة قبل الاقدام على هكذا خطوة. فهم يخشون من عدم قدرتهم على ترجمتها عمليّاً في السياسة والمؤسسات. مع فذلكات رفض التّدويل من قبل جهابذة الدستور في الفريق الحاكم ليقينهم المطلق بأنّ هذا الباب متى فُتِحَ لن يمكن إقفاله.
مقابل ذلك كلّه، الكلّ يعلم في لبنان كيف ومتى تنفّذ القرارات الدّوليّة من القرار 425 حتّى القرارين 1559 و 1701. فلا يمكن مقاربة الأزمة اللبنانيّة انطلاقاً من الأعين الدوليّة التي تبحث دائماً عن سبب محلّي لتنفيذ أيّ قرار أممي. لذلك يتمّ تسخيف قضيّة التدويل من قبل هذه الأكثريّة، لا بل يهلّلون بسرّهم لأنّهم المستفيد الأوّل من أيّ تمويل دولي قد يفكّ أسرهم الاقتصادي.
من هنا، لن ينفع أيّ تدويل إذا لم يُواكَب بخطّة محليّة سياديّة كيانيّة تلتقي وأهدافه، وسيكون مصيره كمصير أيّ قرار أممي سابق. والتجارب شاهدة على ذلك. أمّا إذا استطاع اللبنانيّون خلق اللحظة السياسيّة المؤاتية كتلك التي أدّت إلى خروج المحتلّ السوري في العام 2005 من لبنان، بتضافر الجهود كلّها، وتوحّدهم حول مشروع لبناني واحد لصدّ أيّ مشروع إقليمي لضرب الكيانيّة اللبنانيّة، فعندها فقط سينفع التدويل.
والأكثر من ذلك، سيحقّق في لحظتها الغايات كلّها التي تمّ إسقاطها منذ لحظة 14 آذار 2005 التاريخيّة التي إن تكرّرت ثانية قد لا تتكرّر ثالثة. ومن له أذنان للسماع… فليسمع!