بقلم طوني خوري
كلهم مذنبون، كلهم معنيون، ولكن كلهم يتملصون من المسؤولية. ما حصل في طرابلس ليس مجرد حادثة او خلاف فردي، ما حصل في هذه المدينة الشمالية هو خطة ممنهجة ومؤامرة مدروسة تماماً كتلك التي شهدتها بيروت في وقت سابق، وعدد من المناطق اللبنانية كالذوق وصيدا والشوف و… لكن الغريب في الامر، هو سرعة المسؤولين في التملص من اي مسؤولية تطالهم، وما اسهل استحضارهم لـ”الطابور الخامس” الحاضر دائماً على الاراضي اللبنانية والجاهز للتدخل في كل زمان ومكان وكأنه مجموعة تدخل سريع. في لبنان، يكتسب مفهوم الطابور الخامس معنى يختلف بشكل جذري ع المفهوم العام للعبارة، ففي المبدأ يتحرك هذا الطابور في مكان معيّن وفي وقت محدد وينتهي عمله، فإما ان ينكشف واما ان يتلاشى مع الوقت. اما في لبنان، فلا مجال للحديث عن مثل هذا الامر، ففي كل شارع وحي ومدينة، اهلها وبيئتها التي تنتمي الى زعيم او مسؤول او رئيس تيار حزبي او سياسي، وما “الطابور الخامس” وفق التحديد اللبناني سوى كل من يختلف مع الآخر سياسياً، فيرسل “ازىمه” لمواجهة “ازلام” الزعيم الآخر وتتصاعد الامور ليتدخل زعماء آخرون مع “ازلامهم” الى ان تنشط المساعي والتدخلات لاعادة الامور الى طبيعتها بعد ان يكون الضرر قد فعل فعله وقال كلمته.
اما قمة الوقاحة، فقي محاولة البعض ممن لبس ثوب القداسة، تحميل الجيش اللبناني مسؤولية ما حصل، وكأننا كلبنانيين في عالم آخر او من كوكب آحر، ولا نعلم كيف تسير الامور في هذا البلد. يطالبون الجيش بالتدخل، وما ان يتدخل بقوة لفرض الامن، حتى تعلو الصيحات والاصوات على اكثر من صعيد: طائفي، ومذهبي، وامني، ومناطقي، وسياسي، كلها تلقي باللوم على الجيش لاستعماله الشدة في التعامل مع “متظاهرين ابرياء يعبّرون عن غضبهم بسبب الازمة التي يعيشها لبنان”. وفي حال قرر الجيش التعامل بأقل قدر ممكن من الشدة كي يتجنب كل تلك الاتهامات، يوضع في قفص الاتهام على انه “متفرّج” ومشارك في الجريمة، وغير مبال لما يحصل في منطقة لبنانية تشهد اضطرابات ومشاكل… ازاء هذا الواقع، لا بد من احترام عقول اللبنانيين- ولو ان الامر لن يؤدي الى نتيجة- وخصوصاً لجهة معرفة من يمكن ان يتجرأ وينزل الى الشارع في غياب غطاء من الزعماء والمسؤولين الذين يتحكمون بأزلامهم وفق ما يرغبون، فيعطونهم الضوء الاخضر لعيثوا فساداً في المناطق، ثم ما يلبثوا ان يسحبون هذا التفويض، فيلزم الازلام مكانهم دون حراك. وفي حين يحدثك البعض من “الفلاسفة” عن ان التحرك الاخير في طرابلس كان عفوياً وللتعبير عن حرقة وألم الضائقة التي يعاني منها الطرابلسيون، يكشف آخرون عن امتلاكهم معلومات حول حصول هذا المشهد الاجرامي قبل ايام او ساعات، فكيف يكون التحرك عفوياً اذا كانت المعلومات عنه موجودة من قبل؟ وهل من احد يقتنع انه لو اعطى المسؤولون والزعماء اوامرهم بعدم نزول اتباعهم الى الشارع، لكان تجرأ من هم من خارج المدينة على الظهور؟ وهل كان من الصعب عندها كشف امرهم ومعرفة من ارسلهم؟ انها مزحة سمجة تم اطلاقها في وقت عصيب وفي ظروف مؤلمة عاشتها طرابلس بشكل خاص، ولبنان بشكل عام.
ليس الزعماء والمسؤولون بملائكة، ولا بقديسين، فجميعهم مشارك في هذا السيناريو الكارثي، ومهما حاولوا التملص من فعلتهم بالكلام المعسول والتباكي على مشاهد التخريب والحرائق واستهداف المؤسسات والادارات الرسمية، فليعلموا ان تمثيلهم لم يعد ينفع، وان استمرارهم في حياتهم اليومية دون اي محاسبة، لا يعني ان امرهم لم يكشف، بل يعني فقط انه في لبنان يستسلم الناس للواقع المرير، ويحاولون عيش كل يوم بيومه، بكل ما يحمله من مرارة وعذاب.